أبحاثالدراسات والبحوث

هل ينذر الصراع بين أجنحة تحرير الشام بتفككها داخلياً؟

صراعات الأجنحة وتداعيات الاختراق الأمني داخل هيئة تحرير الشام

 (الأسباب والمآلات)

 إعداد الباحث : طارق حسين

ملخص تنفيذي

  • أدى توسع نفوذ هيئة تحرير الشام في مناطق ريف حلب الشمالي إلى تفجر الصراعات الداخلية بين أهم جناحين في الهيئة، جناح الشرقية وحلب من جهة وجناح بنِّش من جهة أخرى، وانعكس ذلك على التوازن الداخلي للهيئة؛
  • توسعت رقعة الاختراقات الأمنية وتمددت بشكل سرطاني داخل الهيئة لتشمل مواقع حساسة فيها كما فاقمت من أزمتها الداخلية وهددت تماسكها فضلاً عن توظيفها في الصراع داخل الهيئة؛
  • شملت الاعتقالات داخل صفوف الهيئة أكثر من ٤٠٠ عنصر من مواقع قيادية ومؤثرة وغير ذلك داخل هيئة تحرير الشام؛
  • بلغت الانقسامات ذروتها باعتقال أبو ماريا القحطاني على خلفية اتهامات له بالعمالة من قبل الجناح المعادي لجناح الشرقية داخل الهيئة، الأمر الذي صعّد من ارتدادات الصراعات والانقسامات العنيفة داخل الهيئة؛
  • تضمنت لائحة الاتهامات الموجهة إلى أبو ماريا القحطاني بشكل أساسي تهمة التآمر مع أبو أحمد زكور للانقلاب على الجولاني واستلام قيادة هيئة تحرير الشام بالتنسيق مع التحالف الدولي؛
  • يتوقع مغادرة أبو أحمد زكور مع كتلة من فصائل حلب في الهيئة واستقرارهم في مناطق ريف حلب الشمالي؛
  • يتوقع أن يكون للاهتزازات الحادة دخل الهيئة ارتدادات مهمة تجاهها محلياً وإقليمياً ودولياً؛
  • لا يتوقع تفكك الهيئة في المدى المنظور بدون عامل خارجي في ظل وجود كتلة مالية ضخمة داخل الهيئة واستمرار الجولاني كرمزية جامعة لمعظم التيارات داخل الهيئة.

 

تمهيد

يمكن من خلال تحليل تاريخي شامل للجماعات الجهادية المؤدلجة، ملاحظة أن أغلب هذه الجماعات تُعاني من صراعات داخلية تنشأ عن اختلافات إيديولوجية وتصورات متباينة بشأن التعاطي مع الأحداث الجارية. علاوة على ذلك، تظهر الصراعات حول النفوذ والسيطرة بشكل واضح عندما تصل هذه الجماعات إلى مرحلة التمكين، والتي تُعرف بسيطرتها على الأراضي والموارد المالية. تتبع هيئة تحرير الشام هذه النمط، حيث بدأت الخلافات الداخلية تتكشف بعد استيلائها على إدلب وامتداد نفوذها إلى ريف حلب الشمالي، مُبرزةً صراع النفوذ بين تيارين رئيسين داخلها. يمثل التيار الأول كتلة مدينة بنِّش المدعومة من شخصيات بارزة مثل عبد الرحيم عطون وأبو أحمد حدود، بينما يُمثل الثاني كتلة الشرقية بقيادة أبو ماريا القحطاني ودعم كتلة حلب بقيادة أبو أحمد زكور[1].

 

وعلى الرغم من النجاح الجزئي للجولاني في السيطرة على الجماعة بعد حالة التشظي الفكرية، التي أفضت إلى خروج العديد من المجموعات والعناصر وانشقاقها مثل حراس الدين وأنصار التوحيد، إلا أنه لم يتمكن من كبح جماح صراعات السيطرة والنفوذ وقد تعقدت الأمور أكثر بسبب حالة الاختراق الأمني الكبير الذي شمل أكثر من ٤٠٠ شخص يُشتبه في كونهم عملاء للتحالف الدولي، روسيا، والنظام السوري.

 

اعتقال أبو ماريا القحطاني يُشكل بلا شك تطورًا هامًا ضمن تاريخ هيئة تحرير الشام، ويُحتمل أن يكون له تداعيات كبيرة على هيئة تحرير الشام بما يحمله ذلك من تأثيرات مهمة على المشهد الأمني والإداري في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد. ستحاول هذه الورقة البحثية كشف الأسباب والتبعات المحتملة للصراعات والاختراقات داخل الهيئة والآثار المترتبة على اعتقال أبو ماريا القحطاني، وذلك بناءً على التحليل التاريخي والوضع الراهن للهيئة.

مقدمة

تناقش هذه الورقة الصراعات الأخيرة داخل هيئة تحرير الشام وبداياتها والتيارات المتصارعة وأوزان كل منها ، كما تتناول حجم الاختراقات الأمنية داخل الهيئة الفصيل الأهم عسكرياً وأمنياً في شمال غرب سورية والذي يسيطر على نصف محافظة إدلب على الأقل بما في ذلك مركز المحافظة ويمتد نفوذه الاقتصادي وشبكاته الاجتماعية إلى مناطق ريف حلب الشمالي الواقعة تحت الإشراف التركي، الأمر الذي جعل من هيئة تحرير الشام المصنفة دولياً على لوائح الإرهاب رقماً لا يمكن تجاوزه من حيث التقييم والحسابات في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، وفي معرض تناول ملفي الانقسامات الداخلية وملف الاختراق الأمني تناقش الورقة الأثر العميق للاختراقات الحاصلة في وضع هيئة تحرير الشام على سكة التفكك من جهة وتوظيف ورقة الاختراق الأمني من جانب أطراف الانقسام في الهيئة ككرت رابح للإيقاع بخصومهم داخلها كما في حالة الصراع مع تيار القيادي الأهم في الهيئة أبو ماريا القحطاني[2]، حيث  تتناول الورقة حيثيات الاعتقال وسيناريوهاته وأثر كل ذلك على هيئة تحرير الشام داخلياً ومحلياً وإقليمياً دولياً كما يتم التطرق خلال الورقة إلى إدارة قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني لهذه الصراعات ولأزمة الاختراقات الأمنية ولتداعيات اعتقال أبو ماريا القحطاني وصولاً إلى تحليل أبرز التوجهات الداخلية والمحلية والإقليمية والدولية من هذه الصراعات والاختراقات والاعتقالات داخل هيئة تحرير الشام، ثم تنتهي الورقة إلى مجموعة من النتائج والخلاصات.

ونظراً لعدم وجود دراسات بحثية تتناول حالة الاختراقات الأمينة داخل هيئة تحرير الشام بسبب حالة الانغلاق الأمني التي يتميز بها هذا النوع من الجماعات الراديكالية، فقد اعتمد البحث على مصادر خاصة داخل هيئة تحرير الشام أو مصادر مقربة من الهيئة في الوصول إلى المعلومات وتم اعتماد المنهج الوصفي التحليلي في الإجابة على السؤال الآتي : هل تشكل الاختراقات الأمنية داخل هيئة تحرير الشام والهزات الارتدادية لاعتقال أبو ماريا القحطاني بداية تفكك هيئة تحرير الشام ذاتياً أم أن هذا التفكك بحاجة إلى عامل خارجي يستند إلى الصراعات الداخلية في الهيئة وهل ستستطيع الهيئة الخروج من هذه الأزمة لتستعيد تماسكها من جديد؟.

 

أولاً: ديناميات القوى الداخلية وتوسع النفوذ في هيئة التحرير الشام: تحليل الصراع والتحالفات

يمكن اعتبار توسع هيئة تحرير الشام[3] شمالاً باتجاه مناطق ريف حلب الشمالي[4] ، نقطة مفصلية في تصعّد الانقسامات داخل هيئة تحرير الشام، فبالإضافة إلى الانقسامات التي طرأت على الهيئة عقب إعلان انفكاكها عن القاعدة و ما واكب ذلك من انشقاقات أفضت إلى ولادة تنظيمات جديدة أكثر تشدداً كحراس الدين[5]، فإن هناك حوامل لانقسامات أخرى مبنية على أسس واعتبارات مناطقية تعضدها مجموعة من المصالح والمكتسبات التي يعتقد أنها تعززت بعد تمدد هيئة تحرير الشام شمالاً، فضلاً عن زيادة في الوزن العسكري المكتسب لبعض أطراف الانقسام على حساب الأطراف الأخرى، فيما حاول قائد هيئة تحرير الشام إدارة التوازنات بين التيارين المتصارعين ثم لم يلبث أن انحاز ضد أحدهما بعد ظهور معطى جديد متعلق بالاختراق الأمني، تتناول الورقة هنا حيثيات نشوء هذا الصراع وأوزان الأجنحة المتصارعة والأسباب المباشرة لهذا الصراع وموقف الجولاني منه:

1.    نشوء الصراع

بدأ الصراع داخل هيئة تحرير الشام منذ حوالي السنة[6]، فبعد أن أنهى تعيين أبو محمد الجولاني ل “أبو ماريا القحطاني” و”أبو أحمد زكّور” لقيادة الحملة باتجاه ريف حلب الشمالي، أكثر من سنتين من التهميش والإقصاء لهذين الشخصين الأمر سمح لجناح بنِّش ممثلاً بشخصيات أبرزها  “المُغيرة (قتيبة بدوي)”، المسؤول عن الشؤون الاقتصادية، و”أبو حفص بنِّش”، أمير الحدود ومسؤول معبر باب الهوى بالصعود والتفرد بالنفوذ الأقوى داخل هيئة تحرير الشام وقد أظهر القحطاني وزكور كفاءة عالية في مهامهما خلال معارك ريف حلب الشمالي؛ حيث استثمر الأول في العلاقات القائمة مع  عشائر المنطقة الشرقية، بينما استفاد الثاني من خبرته السابقة كأمير لقطاع حلب في تعزيز التحالفات مع فصائل المنطقة، ويعتقد أن صعود جناح الشرقية[7] (القحطاني وزكور) بعد معارك ريف حلب الشمالي قد أثار حفيظة جناح بنِّش الذي يمتلك تأثيرات أخرى تمتد إلى القطاع العسكري والمكتب الإعلامي بفضل شقيقي قتيبة بدوي وأبو حفص بنِّش اللذان يعملان هناك، بالإضافة إلى الدعم الكبير الذي يتلقاه من “عبد الرحيم عطّون”، الشرعي العام للهيئة، الذي ينحدر من بلدة “الطعوم” المحاذية لبنِّش ، ومن “الجولاني” نفسه نظراً إلى صلة القرابة التي تربطه بعائلة بدوي[8]، وكذلك دعم “أبو أحمد حدود”، نائب الجولاني، الذي يُظهر معارضة لـ”أبو ماريا” و”زكّور”، مما أدى إلى دعمه لجناح بنِّش في مواجهة جناح الشرقية.

 

2.    أوزان الأجنحة المتصارعة ونفوذها

يلاحظ تفوق جناح بنِّش على جناح الشرقيّة بالموارد الماليّة والاقتصادية بالإضافة إلى الحظوة عند شخص الجولاني، في حين يتفوق جناح الشرقية على جناح بنِّش ب”السبق الجهادي” والرمزيّة التاريخيّة لشخصيّة أبو ماريا القحطاني، بالإضافة إلى شراسة مقاتليه لذلك سيتم اعتماد ٣ معايير لتحليل أوزان الجناحين الأساسيين المتصارعين ضمن هيئة تحرير الشام وهي المعيار العسكري والأمني والمعيار الاقتصادي والمعيار الاجتماعي:

أولاً: جناح الشرقية

يتميز جناح الشرقية بوزنه العسكري مقارنة بجناح بنِّش، حيث يزيد عديد القوة العسكرية الضاربة لهذا الجناح عن ١٢٠٠ مقاتل كانوا رأس حربة في جميع عمليات هيئة تحرير الشام ضدّ الفصائل، بما في ذلك معركة ريف حلب الشمالي واقتحام عفرين، كما يمتد نفوذ هذا الجناح بشكل كبير داخل المفصل الأمني مُتمثّلاً “بحكيم الديري” أمني قطاع الحدود، وقيادات أخرى في المفصل العسكري مثل “حازم المشهداني”، أما اجتماعياً فيحوز أبو ماريا القحطاني على رمزية كبيرة ووزن تاريخي داخل الهيئة وفي أوساط المنطقة الشرقية كونه كان الشرعي العام لجبهة النصرة من عام 2012 حتى عام 2014 بالإضافة إلى كونه من مؤسسيها[9] كما يحظى “أبو أحمد زكور ” أمير  قطاع حلب من عام 2012 وحتى عام 2015 وأمير ريف حلب الشمالي حالياً بأهمية كبيرة ضمن الهيئة يضاف إلى ذلك ما يعتقد أنه حاجة الجولاني إلى الرجلين للحفاظ على نفوذ هيئة تحرير الشام في مناطق  ريف حلب الشمالي.

ثانياً: جناح بنِّش

يتفوق جناح بنِّش اقتصادياً ومالياً على جناح الشرقية إذ يمتلك موارد ماليّة كبيرة بسبب سيطرته على المفصل الاقتصادي والمعابر، أما عسكرياً فيمتلك قوة عسكرية كبيرة من ١٧٠٠ مقاتل هي قطاع إدلب، فيما يلعب الترابط المناطقي في هذا الجناح دوراً اجتماعياً كبيراً على حساب الرابط التنظيمي والأيديولوجي، بالإضافة إلى علاقات القرابة.

3.    أسباب الصراع

يقود استعراض منحى نشوء الصراع داخل هيئة تحرير الشام ثم تحليل أوزان أطراف هذا الصراع إلى مجموعة من الأسباب الأساسية لهذا الصراع يمكن تلخيصها بالآتي:

  1. ازدياد نفوذ أبو ماريا حيث أصبحت له الكلمة الفصل في مناطق ريف حلب الشمالي؛
  2. ازدياد تدخل أبو ماريا في القطاع الأمني، انطلاقاً من مسؤوليته عن ملف داعش والقاعدة والمجموعات القريبة منهما؛
  3. ازدياد نفوذ قطاع الشرقية داخل المفصل الأمني والعسكري على حساب تهميش أو خفض صلاحيات قطاع بنِّش في المفصلين؛
  4. تنسيق أبو ماريا مع الأتراك في ريف حلب، حيث أعطى نفوذ أبو ماريا في مناطق ريف حلب الشمالي مساحة واسعة للتواصل مع تركيا في كل مرة تجد نفسها فيها مضطرة للتدخل في كل حالة احتكاك عسكري بين هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني في ريف حالب الشمالي.

 

4.    موقف الجولاني: من إدارة الصراع إلى الانحياز ضد أحد طرفيه

 

في إطار الصراع بين جناحي الهيئة ، شرع جناح  بنِّش في  جمع المعلومات عن جناح الشرقية وعلى رأسه أبو ماريا القحطاني، حيث ساعد تجسس جناح بنِّش على الاتصالات اللاسلكية لأبو ماريا القحطاني بالإضافة إلى نشر معلومات من عناصر مزدوجة الولاءات مثل أبو عمر شدادي، على تعزيز قدرة جناح بنِّش على الإطاحة بأبو ماريا ثم إضعاف جناح الشرقية عبر الوصول لأدلة استخباراتية تدين القحطاني أمام أبي محمد الجولاني وقد أسفرت هذه التحركات عن شكوى من قبل القحطاني إلى الجولاني بشأن تصرفات جناح بنِّش الأمر الذي دفع  الجولاني إلى تأنيب جماعة بنِّش وإظهار تحيزه نحو القحطاني، وذلك نظرًا للاعتماد على الأخير في ريف حلب الشمالي[10]،وفي محاولة لتحقيق التوازن بين الجناحين المتنافسين، إلا أن هذا التوازن لم يصمد طويلاً إذ بدده اعتقال الهيئة للقحطاني بعد نجاح جناح بنِّش بكشف منظومة اختراق أمني كبيرة ومهددة لوجود الهيئة وتماسكها، يُتهم القحطاني بالمسؤولية عنها، حدثٌ كهذا أدى إلى تغيير في الأوزان السياسية داخل الهيئة وأسفر عن موقف مضاد للقحطاني من جانب الجولاني بشكل مطلق.

ثانياً: الاختراقات الأمنية وتداعياتها: النزاع الداخلي وزعزعة استقرار هيئة تحرير الشام

انتقلت الاختراقات الأمنية داخل هيئة تحرير الشام من حيز التحديات الهامشية التي يمكن أن  تواجه أي تنظيم راديكالي إلى حيز التأثير الفعلي في التماسك الداخلي في بنية هيئة تحرير الشام إلى جانب الصراعات بين أجنحة الهيئة الأساسية ، سيما وأنها قد طالت مفاصل عديدة ضمن الهيئة وقد تنوعت الجهات المستفيدة التي يعمل لصالحها العملاء داخل الهيئة بين النظام وحزب الله وروسيا والتحالف الدولي ، وهو ما اعترفت به الهيئة على لسان المتحدث باسم جهاز الأمن العام ” ضياء العمر”[11] بعد انتشار هذه الأخبار عبر معرفات رديفة لهيئة تحرير الشام بالإضافة لعدة مواقع أخرى، وقد أسهمت جسور التواصل سعت الهيئة لمدها مع أصحاب المصلحة في الملف السوري محليين كانوا أم إقليميين أم دوليين من ناحية موضوعية في كشف هذه الاختراقات كما لعبت أسباب ذاتية تخص هيئة تحرير الشام دوراً أساسياً في توسع رقعة الاختراقات الأمنية لتتمدد إلي مفاصل أساسية وحساسة في هيكل الهيئة:

 

1.    صفقات هيئة تحرير الشام واتصالاتها: مكتسبات استخباراتية متبادلة أم سعي لإلغاء التصنيف؟

رغم السعي الحثيث لهيئة تحرير الشام لفتح قنوات الاتصال المباشرة مع بعض الدول الفاعلة في الملف السوري بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق بعض الصحفيين والباحثين أو من خلال الاتصال مع الوكلاء المحليين لهذه الدول في مناطق النفوذ والسيطرة في سورية وذلك في محاولات مستمرة لشرعنة وجود الهيئة والتخلص من وصمة تصنيفها، فإن هذه الجهود كانت ولاتزال تثمر مكتسبات أمنية لجهة كشف الاختراقات داخل الهيئة، فقد وافقت هيئة تحرير الشام على إطلاق سراح قيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي PYD المسيطر على مناطق شرق الفرات الخاضعة لنفوذ التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، مقابل تزويد قوات سورية الديمقراطية (قسد) التابعة للحزب للهيئة بمعلومات عن عملاء يعملون لصالح التحالف الدولي في محافظة إدلب حيث قامت هيئة تحرير الشام باعتقال خلية مكونة من ٥ عناصر  كشفت التحقيقات معهم عن شبكة من العملاء مرتبطة بهم من المدنيين ومن موظفي حكومة الإنقاذ وعناصر وقيادات داخل هيئة تحرير الشام[12]، كما أثمر التنسيق مع مع مقربين من تركيا عن الهيئة بمعلومات عن حركات تحويل مالية ضخمة ومشبوهة إلى مناطق سيطرة الهيئة حيث تتبعت الهيئة هذه التحويلات وألقت القبض على الكثير من المشتبه بهم وباشرت التحقيق معهم، فيما نجح التواصل مع فرنسا[13] بإنجاز صفقة سلمت من خلالها هيئة تحرير الشام المخابرات الفرنسية بيانات مخيم الغرباء في محافظة إدلب والذي يضم أكثر من ٣٠٠ مواطن فرنسي مع عائلاتهم، مقابل تزويد المخابرات الفرنسية للهيئة بأسماء بعض خلايا التحالف الدولي في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام[14].

2.    تزعزع دوائر الولاء: تحليل الاختراقات الأمنية في هيكل هيئة تحرير الشام

امتدت شبكات الاختراق داخل هيئة تحرير الشام لتشمل كوادر هامة في الهيئة يفترض بها الولاء الكامل للهيئة و الذي أهلها لشغل مناصب حساسة وسرية أحياناً داخلها، الأمر الذي يهدد بضعضعة بنية الهيئة الداخلية وتخلخلها والأهم جعل ظهرها مكشوفاً للاستهداف الخارجي عبر كم هائل من المعلومات المسربة لروسيا أو النظام أو التحالف الدولي، فقد تم إلقاء القبض على أكثر من ٤٠٠ شخص منهم مرافق عبد الرحمن عطون الشرعي العام لهيئة تحرير الشام و”أغيد” مسؤول جهاز الأمن بقسم الاتصالات و”سراقة” مرافق “أبو أحمد حدود”(من جناح بنش وله منصب أمني هام داخل الهيئة) وعديل “أبو أحمد حدود” الذي يتولى التحقيق بملف التحالف، و”عباس” مرافق “زيد العطار” مسؤول العلاقات الخارجية في الهيئة[15] ومدير الموارد البشرية في القطاع العسكري الذي قام بتزويد روسيا بذاتيات الجنود والمقرات العسكرية، كما تم إلقاء القبض على مسؤولي ملف تنظيم حراس الدين في أمينة هيئة تحرير الشام وعددهم ١٠، تبين بعد التحقيق أن ٩ منهم كانوا على اتصال مع التحالف الدولي[16]، كما شملت الاعتقالات مسؤول الدراسات الأمنيّة في سرمدا، وأمير سابق في قطاع تفتناز، وعسكري في لواء “علي بن أبي طالب”[17] والأمني السابق لقطاع الشرقيّة[18]، كذلك عبد الحميد سحاري عسكري لواء طلحة الذي سلّم محور “ميزناز” و”كفر حلب” إلى النظام السوري مقابل مبلغ 1700 دولار[19]، ويمكن حصر الأسباب الذاتية للاختراق داخل الهيئة بالآتي :

  1. التوسّع غير المدروس لهيئة تحرير الشام، وضم عناصر إلى صفوفها بدون إخضاعهم لدراسات أمنية، خاصّةً فئة المنشقّين حديثاً عن النظام، حيث تحكمت حاجة الهيئة الماسة لكوادر تعمل في قطاع الشرطة والأمن بعد إنشائها لحكومة الإنقاذ بقدرتها على ضبط الاختراقات المحتملة من جانب المنتسبين الجدد؛
  2. التساهل في ضبط العلاقة مع منظمات المجتمع المدني وخاصة العاملة منها في الحقل الإنساني والتي تضم في صفوفها عناصر مرتبطة بأجهزة استخبارات دولية؛
  3. البيئة الخصبة لتجنيد العملاء ،فقد شهدت هيئة تحرير الشام منذ عام ٢٠١٧، تحولاً في التكوين الأيديولوجي لعناصرها، حيث لم تعد العقيدة الدينية الراسخة والمتجذرة عاملاً مانعاً للتجنيد كما كانت في السابق وعلى عكس العناصر المتشددة أيديولوجياً التي كانت تنظر إلى الانخراط في علاقات عمالة لجهات دولية كفعل محظور وكفر والذين انشقوا فيما بعد بمعظمهم ليشكلوا تنظيم حراس الدين أو مجموعات مستقلة أخرى، فإن الأعضاء الجدد الذين انضموا بعد عامي ٢٠١٧ و٢٠١٨ لم يظهروا نفس المستوى من المقاومة الأيديولوجية، الأمر الذي سهّل على الجهات الخارجية تجنيدهم لصالحها؛
  4. الإغراءات الماليّة الكبيرة وهو سبب يرتبط إلى حد كبير بالسبب السابق، فقد خلقت الهوة الساحقة بين ما يتقاضاه عنصر في هيئة تحرير الشام وبين ما يمكن أن يتقاضاه نفس العنصر في حال قبوله بالعمل ضمن شبكات الاختراق حافزاً مشجعاً للكثير من عناصر الهيئة للوقوع في شَرَكها[20].

ثالثاً: التحولات الحاسمة: ملف الاختراق الأمني يصيب القحطاني ويصعّد من احتمالات التفكك أو الإضعاف

كما ذُكر سابقاً، تمكن جناح بنِّش من استخدام ملف الاختراق الأمني للإطاحة بجناح الشرقية، إلا أن النتيجة الأشد تأثيراً على مستقبل الهيئة كانت استهداف رأس هذا الجناح أبو ماريا القحطاني شخصياً بما يحمله من كاريزما وحضور وعلم شرعي، فقد نجح جناح  بنِّش بالحصول على تسجيلات تثبت التواصلات الخارجية للقحطاني وتم تسليمها للجولاني، ليتم توقيف القحطاني[21] والتحقيق معه من قبل الجولاني شخصياً في الكثير من الحالات، ليفتح توقيفه الباب على مصراعيه أمام تحركات متضاربة داخلية وخارجية يطالب بعضها بمعاقبة القحطاني فيما يطالب الآخر بالإفراج عنه الأمر الذي يطرح عدة سيناريوهات حول مصير القحطاني ومصير الهيئة وسط تزايد الانقسامات داخلها بنتيجة الصراعات بين أجنحتها من جهة والتخلخل البنيوي الناجم عن تقويض شبكات اختراق متغلغلة في مفاصل هامة في جسم الهيئة، فضلاً عن الضغوطات المحلية من خارج الهيئة عليها من أجل عدم التساهل بالتعامل مع ملف العملاء، لتقف الهيئة أمام تحدي الشرعية الذي حاولت طوال الوقت حيازته عبر تقديم نفسها للدول الفاعلة في الملف السوري كبنية متماسكة قادرة على الاستجابة لاستحقاقات الإدارة والأمن، وصولاً  لإعادة تعريف نفسها كجماعة محلية جديرة بعدم التصنيف على لوائح الإرهاب الدولي:

1.    أبو ماريا القحطاني: من القاعدة إلى هيئة تحرير الشام، الوزن الاجتماعي والشرعي والجهادي

يمتلك أبو ماريا القحطاني كاريزما وحضور قوي ويُقدّر في الكثير الأوساط الجهادية كطالب علم لاجتهاداته الشرعية فضلاً عن علاقاته العشائرية في العراق ثم في سورية كونه ينتمي لعشيرة الجبور العربية، وهو ما منحه أرضية اجتماعية وزخم أهله لتولي مهمة القيام بتواصلات خارجية واسعة لصالح هيئة تحرير الشام سعياً لإزالتها من لوائح الإرهاب[22]. وقد انضم إلى القاعدة تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي في عام 2004 وتم اعتقاله مرتين حيث التقى هناك بالجولاني[23] ، بعد دخول القحطاني إلى سورية انضم إلى جبهة النصرة بدعوة من الجولاني الذي عاد إلى سورية عام ٢٠١١، حيث تم تعيينه كشرعي عام للجماعة التي لم تكن تملك وقتها أي كوادر شرعية مؤهلة وقتها ثم عُيّن لاحقًا أميرًا لقطاع دير الزور، وتميز بنجاحاته هناك ثم لم يلبث أن عُزل من منصبه عام ٢٠١٣بعد انشقاق جبهة النصرة عن داعش، وكان القحطاني من أوائل من قاتل تنظيم داعش محافظة دير الزور حيث نشب الخلاف الأول بينه وبين الجولاني بعد اتهامه للأخير بالتخاذل بإرسال المؤازرات لنصرة قطاع الشرقية ضد تنظيم داعش[24]، واستمر الجفاء بين الرجلين حتى عقد الجولاني صلحاً مع قطاع الشرقية واعتذر منهم وذلك بعد عودة الأخير من محافظة درعا نهاية عام ٢٠١٥ ليعين على إثر ذلك القحطاني عضواً في مجلس الشورى واللجنة الشرعية ومجلس الإفتاء، لكنه بقي من دون صلاحيات فعلية ونفوذ حقيقي حتى تم تعيينه مسؤولاً عن ملف الشمال بالشراكة مع أبو أحمد زكور.

2.    تقاطعات النفوذ والأيديولوجيا: تفاصيل اعتقال أبو ماريا القحطاني وحيثياته

بحسب معطيات تم الحصول عليها، أجرى القحطاني محادثات مع ضابط من الموصل ينتمي إلى عشيرته، مستكشفًا إمكانية تسوية وضعه  في حال قرر العودة إلى العراق حيث رأى القحطاني بأنه لا يرى مستقبلاً له في سورية كونه غير سوري  وتوقعاته بأن تحرير الشام ستتفكك أو تدمج ضمن تنظيمات أخرى كالجبهة الشامية، أما في تأويلاته الشرعية للتواصل مع الدول، فقد استند القحطاني إلى نص حنفي لابن حزم يبيح الاستعانة بغير المسلمين ضد البغاة[25] ، وهو ما استخدمه لتبرير التواصل مع الدول “الكافرة” ضد تنظيمي داعش والقاعدة، حيث أصبح القحطاني ينظر إلى الأخيرة متمثلة في تنظيم حراس الدين في سورية على أنها من “الخوارج” وتحت تأثير إيران وخاصة بعد تعيين سيف العدل أميراً لها[26]، تواصلات القحطاني هذه مع الضابط لم تتجاوز النقاشات العامة حول جهود الهيئة في مكافحة الإرهاب بالإضافة إلى تقديم قائمة بأسماء قيادات داعش والقاعدة التي قُبض عليهم أو قُتلوا على يد الهيئة. كما قدم نفسه كجزء من التيار الإصلاحي[27] المعارض للسياسات العدائية التي يتبعها الجناح الآخر داخل الهيئة ضد المواطنين وضد الفصائل الأخرى[28] وقد تمكن الجولاني من الحصول على بعض التسجيلات لهذه التواصلات، ليتم اعتقال القحطاني بخدعة، حيث تم استدعاؤه لاجتماع تلاه تحقيق بقيادة شخص يعرف باسم “أبو عبيدة منظمات “، عديل “أبو أحمد حدود” حيث رفض القحطاني التعاون وتحدى المحققين، مؤكداً على موقفه الرافض للتوقيف[29].

 

3.    الجولاني يدين القحطاني: جهود الوساطة وسيناريوهات ملف أبو ماريا

بلغ ملف القحطاني نقطة اللاعودة مع استغلال جناح بنِّش الشكوك التي أثيرت حول أبو ماريا بتجهيز ملف متكامل عن اتصالات الأخير لتتم إدانة القحطاني بشكل غير مباشر فيما تكثفت جهود جناح ووجهاء المنطقة الشرقية للوساطة لأبي ماريا لدى الجولاني، وليقف ملف أبو ماريا أمام عدة سيناريوهات ربما تنهي مسيرته في سورية:

  • مواجهة الجولاني للقحطاني: تم الكشف عن ملف اتهام أعده جناح بنِّش وقدمه للجولاني بعد حصول الأخير على التسجيلات المذكورة، الاتهام الموجه لأبو ماريا يتمحور حول التواصل مع دول أجنبية بهدف تنظيم انقلاب داخل هيئة تحرير الشام، والسعي لإزاحة التيار المتشدد واستلام القيادة من خلال التحالف مع تيارات معتدلة. الجولاني، بعد أن قام بالتحقيق شخصيًا مع أبو ماريا، وجه إليه تهمة السعي للإطاحة بقيادة الهيئة. ومع ذلك، يتناقض هذا الاتهام مع الواقع القانوني الدولي الذي لا يفرق بين التيارات المتشددة والمعتدلة ضمن الهيئة، حيث تُصنف على لوائح الإرهاب دون تمييز[30].
  • جهود الوساطة المدنية والعسكرية: تحرك القياديان في جناح الشرقية مظهر الويس وأبو أحمد زكّور، للضغط على الجولاني من أجل إطلاق سراح أبو ماريا، مدعين أن التهم كيدية من جانب جناح بنِّش ونتيجة لهذه الضغوط، تم إخراج أبو ماريا من الاعتقال ووضعه تحت نوع من الإقامة الجبرية في معبر باب الهوى، ليحقق الجولاني معه لمدة ساعتين مركزاً على سؤاله عن تواصلاته الخارجية ولماذا كانت تتم بدون علمه، دون إدانته بشكل صريح واتهامه بالعملة، كما قام ٥٠ قائد عسكري من الشرقية ومثلهم من أعيان المنطقة الشرقية بزيارة الجولاني بغرض الضغط عليه للإفراج عن أبي ماريا ولكن الجولاني أصر على استكمال المسار القضائي والتحقيق. وأشار إلى أنه قد يتم تحويل القضية إلى جهاز الأمن -الأمر الذي حدث لاحقاً- للضغط من أجل الاعترافات التي قد تقود إلى محاكمة أبو ماريا، لكنه ألمح في لقاء خاص منفصل إلى إمكانية تدخله لمنع تنفيذ حكم الإعدام في حال حكمت المحكمة عليه بالإعدام[31].
  • تحويل أبو ماريا القحطاني إلى القسم الأمني: بعد عجز الجولاني وعطون اللذان توليا التحقيق مع أبي ماريا في مكان إقامته الجبرية في معبر باب الهوى عن إقناع الأخير بالاعتراف بالتهم المنسوبة إليه، تمت إحالته إلى القسم الأمني حيث تم قطع اتصاله بأسرته، وانتزاع اعترافات منه تحت التعذيب حيث تولى التحقيق معه قريب للجولاني يدعى “وسام الشرع”[32]، كما اعتمد التحقيق على اعترافات مجموعة من عناصر الهيئة[33] وتدور لائحة اتهام أبو ماريا القحطاني حول سيناريوهين للانقلاب على الجولاني يخطط لهما أبو ماريا وزكور بالتنسيق مع التحالف الدولي الأول استهداف اجتماع قيادي لهيئة تحرير الشام يحضره الجولاني وبقية قيادات الهيئة ويغيب عنه كل من أبو ماريا وزكور والثاني ترتيب اجتماع للقيادة بمعبر باب الهوى ثم يتم اعتقال الجميع بما فيهم أبو ماريا ثم يتم الإفراج عنه ليتسلم قيادة هيئة تحرير الشام[34].
  • ثلاثة سيناريوهات لملف أبي ماريا القحطاني:

من خلال ما تقدم، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لملف أبو ماريا القحطاني:

  1. تحويله إلى المحاكمة والحكم عليه بالإعدام ثمّ تخفيضه إلى سجن طويل الأمد؛
  2. وضعه قيد الإقامة الجبرية في مزرعة مع أهله في حال صعّدت الشرقية وكتلة حلب وأبو أحمد زكّور من الضغوط على الجولاني؛
  3. إخراجه من سورية بعد قضائه فترة قيد الإقامة الجبريّة، والوجهة التي سيختارها غالباً هي إقليم كردستان، هذا في حال شعر الجولاني أنّ هناك انقسام حقيقي سيحدث داخل الجماعة بسببه.

رابعاً: أصداء الصراعات والاختراقات والإطاحة بالقحطاني: الارتدادات داخل الهيئة وخارجها وسيناريوهات المواقف الدولية من الهيئة

يشهد الوضع الراهن داخل هيئة تحرير الشام توترات وتحديات متزايدة، تتجلى في اضطرابات داخلية وخلافات أيديولوجية، مُفاقمة بتهم العمالة والاتهامات الموجهة إلى أبو ماريا القحطاني. هذه الأزمة تُبرز انقسامات عميقة بين الأجنحة والكتل المختلفة وربما تلفت انتباه أصحاب المصلحة الدوليين والإقليميين بشأن استقرار الهيئة ونفوذها، حيث تُظهر الاستجابات المتباينة لهذه التحولات من الفصائل والمجموعات المحلية واحتمالات الاهتمام الدولي والإقليمي تحولًا محتملًا في مشهد الصراع السوري، مما يشير إلى تغيرات مستقبلية قد تُعيد تشكيل القوى داخل الهيئة وخارجها ويمكن استعراض ردود الفعل الحاصلة والمحتملة لهذه التطورات فيما يتعلق بيئة تحرير الشام داخل الهيئة وعلى المستويين المحلي والدولي:

4.    على المستوى الداخلي

في سياق التحقيقات الأمنية والتهم الموجهة ضمن هيئة تحرير الشام، يعيش العناصر والموالون للهيئة حالة من الصدمة والارتباك، خاصةً بعد الكشف عن خلايا تُتهم بالعمالة لقوى خارجية مثل التحالف، روسيا، والنظام السوري وازدادت الأمور تعقيدًا مع الادعاءات التي قام بها جناح بنِّش عبر وسائل الإعلام التابعة له، والتي سوّق خلالها لفكرة أن أبو ماريا القحطاني هو عميل للتحالف و ردًا على ذلك، هدد جناح بنِّش بتعليق أنشطته داخل الهيئة في حال لم يُحاكم القحطاني بصورة جادة، من جانب آخر، شهد جناح الشرقية توترات مماثلة، حيث هدد مظهر الويس وأبو أحمد زكّور بتقديم استقالاتهم، وأصدر الويس توجيهات لعناصر قطاع الشرقية بتعليق عملهم والجلوس في المقرات وعدم الخروج إلى نقاط “الرباط”، كما هدّد “حكيم الديري” الأمني البارز المحسوب على قطاع الشرقية بتعليق عمله [35]. هذا الوضع عكس حالة من عدم الثقة والشكوك المتبادلة بين العناصر والقيادات في الهيئة، مما دفع الجولاني لإصدار تعميم شفهي بمنع تداول قضية القحطاني[36].

5.     على المستوى المحلي

اتسعت دائرة ردود الأفعال حول التطورات داخل هيئة تحرير الشام إلى خارج الهيئة، حيث رأى أولياء الدم أن الهيئة تتحمل مسؤولية القصف الذي تعرضوا له من قبل التحالف، وطالبوا بالقصاص من العملاء، وهو ما عبّرت عنه رابطة مهجري حلب[37] وبيان أولياء الدم التابع لحراس الدين.[38]

كما بدأت المجموعات التي كانت ترتبط بالهيئة مقابل الدعم اللوجستي بالانفصال عنها، كما فعلت جماعة أنصار التوحيد التي أعلنت بشكل مستقل عن هيئة تحرير الشام تبنيها لعملية تفجير نفق الملاجة[39] ويتوقع أن تتبع مجموعات أخرى هذا النهج، وتبدأ في تنفيذ عملياتها على خطوط التماس مع النظام بشكل مستقل، مما يعكس انعدام الثقة المتزايد تجاه الهيئة ورغبة هذه المجموعات بحماية نفسها من القصف الروسي المتصاعد في الآونة الأخيرة بعد تسرب إحداثيات مواقعها ونقاطها بسبب حوادث الاختراق داخل الهيئة.

 

6.    على المستوى الدولي

قد تنظر الدول الفاعلة في الملف السوري إلى هذه الأحداث على أنها جزء من نمط “التشظي” التاريخي داخل الجماعات الراديكالية، وبالتالي فإن هيئة تحرير الشام ستتفتت من الداخل. ويشي تصنيف الولايات المتحدة لبعض الفصائل التي تحتفظ بعلاقة جيدة مع كل من تركيا والهيئة (كفصيل سليمان شاه والحمزات المحسوبان على تركيا واللذان يعتقد أنهما مسؤولان عن إدخال الهيئة إلى عفرين) باختلاف الرؤية بين تركيا والولايات  حيث سيتسبب ضعف التجانس والتماسك داخل الهيئة والتخلخل غير المسبوق في بنيتها الداخلية بتراجع اعتماديتها من قبل أصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين كوكيل محلي للتجاوب مع ملفي الإدارة والأمن ومكافحة الإرهاب، وربما تتصاعد الضغوطات الأمريكية عبر مزيد من العقوبات وإدراج الفصائل الموالية لهيئة تحرير الشام على لوائح العقوبات.

نتائج وخلاصات

تواجه هيئة تحرير الشام في خضم التوترات الحالية مرحلة حاسمة قد تُعيد تشكيل هيكلها ونفوذها حيث تلقي الأحداث الأخيرة بظلالها على الاستقرار الداخلي للهيئة وتفتح الباب أمام تغييرات جذرية قد تحدث بتأثير من العوامل الداخلية والضغوط الدولية، ويمكن بناء على سبق الوصول إلى النتائج والخلاصات الآتية:

  • لا يتوقع أن تتسبب الصراعات الداخلية في هيئة تحرير الشام بمواجهات مسلحة بين جناحي بنِّش والشرقية وصولاً إلى تفكك الهيئة بالكامل؛
  • من المتوقع أن تقتصر النتائج على استقالة أفراد مؤثرين من هيئة تحرير الشام مثل أبو أحمد زكور ومظهر الويس؛
  • يتوقع خروج أبو أحمد زكور وكتلته والاستقرار في ريف حلب الشمالي؛
  • يعتقد أن الجولاني استطاع تأمين الولاء داخل الفصائل الشرقية، بالترغيب والترهيب وهو ما قد يحد من تصعيد الصراع إزاء محاكمة أبو ماريا القحطاني واستمرار توقيفه؛
  • قد تواجه هيئة تحرير الشام إضعافًا ملحوظًا وفقدانًا للعناصر، خصوصًا أولئك الذين على خطوط التماس؛
  • يتوقع انضمام العناصر المغادرة للهيئة إلى فصائل الجبهة الوطنية للتحرير وفق التشكلات المناطقية جيش العزة لأبناء حماه وجيش الأحرار لأبناء إدلب وتجمع دمشق لأبناء دمشق؛
  • يمكن أن تسفر هذه التوترات أيضاً عن خروج مجموعات المهاجرين وانشقاقها عن الهيئة مثل مجموعات الألبان والقوقاز وغيرهم؛
  • ربما يسرّع من عمليات الانفكاك عن الهيئة وجود عامل خارجي كإغلاق معبر باب الهوى الرافد الاقتصادي الأهم للهيئة أو تقوية الجبهة الوطنية للتحرير من قبل تركيا على حساب الهيئة؛
  • يتوقع ضعف دور الهيئة في مناطق ريف حلب الشمالي وخاصة بعد انتهاء دور القحطاني والاستقالة المتوقعة لأبي أحمد زكور الأمر الذي ربما يدفع فصائل حليفة للهيئة كالحمزات وسليمان شاه بالبحث عن تحالفات جديدة لحماية نفسها بالإضافة لأحرار الشام (جناح صوفان) الذين بدأوا بنقل قسم من سلاحهم الثقيل من محافظة إدلب إلى منطقة الباب بريف حلب الشمالي[40] ؛
  • قد يتمثل الأثر الأهم لهذه الأحداث بتسارع متوقع للدول الفاعلة وخاصة تركيا لاتخاذ قرار بإنهاء ملف هيئة تحرير الشام بداية بإنهاء نفوذها في مناطق ريف حلب الشمالي ثم بممارسة ضغوط كبيرة عليها للاندماج بالجبهة الوطنية للتحرير مع التعامل بقوة السلاح مع من يرفض هذا الاندماج؛

خاتمة

لن يعود الزمن بهيئة تحرير الشام إلى الوراء بعد الصراعات العاصفة فيها والاختراقات العميقة التي أصابتها في مواقع حساسة وبالغة الأهمية فضلاً عن الإطاحة بأحد أهم الشخصيات الوازنة فيها وما يمثله من ثقل عشائري واجتماعي وشرعي، لكن ذلك كله لن يوصل الهيئة على الأقل في المدى المنظور إلى ضفة التفكك  بدون عامل خارجي وذلك رغم انشقاقات متوقعة لمجموعات وأفراد عنها، حيث ستحافظ رمزية الجولاني كشخصية جامعة لكل التيارات داخل الهيئة إلى حد كبير فضلاً عن وجود موارد مالية ضخمة على الحد الأدنى من تماسك الهيئة كقوة أمر واقع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من محافظة إدلب.

 

 

[1] ينحدر أبو أحمد زكور واسمه جهاد عيسى الشيخ ويعرف أيضاً ب عمر الشيخ من محافظة حلب .

[2] ينحدر أبو ماريا القحطاني واسمه ميسر بن علي الجبوري من بلدة الهرارة بريف محافظة الموصل شمالي العراق وهو من مواليد ١ يوينو ١٩٧٦.

[3] تحركت هيئة تحرير الشام باتجاه ريف حلب الشمالي في ١٠/١٠/٢٠٢٢، لمحاولة منع الفيلق الثالث في الجيش الوطني من إنهاء الوجود العسكري لفرقة الحمزات في ريف حلب الشمالي بعد تورط الأخير بمقتل الناشط محمد أبو غنوم.

[4] يشمل ريف حلب الشمالي ما يعرف عملياتياً بمناطق درع الفرات (إعزاز والباب وجرابلس وأريافهم) ومناطق غصن الزيتون (عفرين وريفها) وهي مناطق تخضع للإشراف التركي.

[5] ظهر تنظيم حراس الدين وهو جماعة جهادية موالية لتنظيم القاعدة في سورية في بداية عام 2018 بعد انشقاق العديد من الفصائل عن هيئة تحرير الشام، إبان إعلان الأخيرة تحولها إلى فصيل سوري غير مرتبط بالقاعدة.

[6] أسامة زين العابدين” أبو ماريا القحطاني من اليد اليمنى للجولاني إلى المعتقل: عمالة أم طموح؟”، أورينت.نت، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3PcxsmS ، تاريخ٢٣/٠٨/٢٠٢٣.

[7] يتضمن جناح الشرقية في أي موضع من هذه الورقة فصائل الشرقية المنضوية في الهيئة والقريبة من القحطاني، وفصائل حلب المنضوية في الهيئة والقريبة من زكور.

[8] يرتبط الجولاني بعلاقة قرابة مع عائلة بدوي فزوجته الثانية من نفس العائلة.

[9] أسامة زين العابدين” أبو ماريا القحطاني من اليد اليمنى للجولاني إلى المعتقل: عمالة أم طموح؟”، أورينت.نت، مصدر سابق.

[10] مصادر خاصة لكاندل.

[11] حسن إبراهيم، “تجميد مهام “القحطاني” يحرّك صراعًا داخل “تحرير الشام”، جريدة عنب بلدي، الرابط الإلكتروني: https://www.enabbaladi.net/655717/ ، تاريخ:٢٠/٠٨/٢٠٢٣.

[12] مصادر خاصة لكاندل.

[13] بحسب مصادر كاندل، أثمرت زيارة الصحفي “وسيم نصر” إلى إدلب ولقائه مع الجولاني، ومدحه هيئة تحرير الشام والإصلاحات التي تقوم بها خاصّة بإعادة حقوق المسيحيين، وزيارة الدكتور “يوسف الهجر” مسؤول العلاقات الخارجية إلى فرنسا عن إنجاح هذه الصفقة، أسامة زين العابدين،”أبو ماريا القحطاني من اليد اليمنى للجولاني إلى المعتقل: عمالة أم طموح؟”،أورينت.نت، مصدر سابق.

[14] أس الصراع في الشام، حول التعاون بين المخابرات الفرنسية وهيئة تحرير الشام، منصة X، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/44q6cFS ، تاريخ ١٦/٠٧/٢٠٢٣.

[15] أس الصراع في الشام، حول الاعتقالات في صفوف هيئة تحرير الشام٢، منصة X، الرابط الإلكتروني: https://2u.pw/9GQ9Jin، تاريخ ٢٣/١١/٢٠٢٣.

[16] حساب قناة أورينت نيوز على X، “القيادي السابق في ميليشيا “تحرير الشام” حسان برد يكشف معلومات وأسماء العملاء داخل صفوفها”، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3KX8CEW، تاريخ:١٨/٠٨/٢٠٢٣.

[17] أس الصراع في الشام، حول الاعتقالات في صفوف هيئة تحرير الشام، منصة X، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3Ef9d12 ، تاريخ ٩/٠٧/٢٠٢٣.

[18] حايد حايد،” اختراق أمني يزعزع هيئة تحرير الشام”، المجلة، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/45raUo4، تاريخ: ١٩/٧/٢٠٢٣.

[19] أس الصراع في الشام، حول القيادي عبد الحميد سحاري وصفقة بيع محور كفر حلب مع النظام السوري، منصة X، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3QRzaLD ، تاريخ: ٢٥/٠٧/٢٠٢٣.

[20] بحسب مصادر كاندل يتقاضى العنصر في هيئة تحرير الشام راتب شهري قدره ٧٠ دولار، في حين يمكن أن يحصل العميل لأجهزة مخابرات الدول المختلفة على ال٨٠٠ إلى ١٠٠٠ دولار أمريكي شهرياً على الأقل لقاء معلومات هامة يزود بها هذه الأجهزة.

[21] أسامة زين العابدين” أبو ماريا القحطاني من اليد اليمنى للجولاني إلى المعتقل: عمالة أم طموح؟”، أورينت.نت، مصدر سابق.

[22] أسامة زين العابدين،”أبو ماريا القحطاني من اليد اليمنى للجولاني إلى المعتقل: عمالة أم طموح؟”، أورينت.نت، مصدر سابق.

[23] اعتقل أبو ماريا القحطاني خلال وجوده في العراق مرتين الأولى في عام 2005 والثانية في معسكر “بوكا” في البصرة عام 2007، حيث التقى في التقى بالجولاني، ثم أُطلق سراحه لاحقاً بعد انتهاء محكوميته، وفي عام ٢٠٠٩دخل سورية للعلاج وبقي فيها حتى تمّ إيفاد الجولاني إلى سورية في عام 2011.

[25] مصادر خاصة بكاندل.

[26]أسامة زين العابدين” أبو ماريا القحطاني من اليد اليمنى للجولاني إلى المعتقل: عمالة أم طموح؟”،أورينت.نت، مصدر سابق.

[27] عدنان أحمد،” تجميد صلاحيات أبو ماريا القحطاني يكشف صراعات “تحرير الشام”، العربي الجديد، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3PeUxp0، تاريخ: ٢٠/٠٨/٢٠٢٣.

[28] بحسب موقع تلفزيون سورية والذي نشر بتاريخ ١٦/٠٨/٢٠٢٣، تقريراً خاصاً بعنوان “ما حقيقة اعتقال هيئة تحرير الشام لـ”القحطاني” بتهمة العمالة؟” فإن القحطاني عادة ما يتكلم بهذا الحديث في المجالس الخاصة والعامة وأمام الفصائل الأخرى منتقداً الجولاني نفسه وسياسات الهيئة لتأكيد دوره الإصلاحي وللتقرب من الفصائل المخالفة لهيئة تحرير الشام، للاطلاع: https://bit.ly/45tqmA6. .

[29] مصادر خاصة بكاندل.

[30] مصادر خاصة بكاندل.

[31] مصادر خاصة بكاندل.

[32] أس الصراع في الشام، حول الاعتقالات في صفوف هيئة تحرير الشام٢، منصة X، مصدر سابق.

[33] بحسب مصادر كاندل فقد كانت المجموعة قد اعترفت على القحطاني في السابق ثم تراجعت عن اعترافاتها ليتم اعتقالها من جديد من قبل جماعة بنش والضغط عليها لتثبيت الاعترافات السابقة.

[34] مصادر خاصة بكاندل.

[35] مصدر خاص لكاندل من داخل قطاع الشرقية.

[36] مصادر خاصة بكاندل.

[37] تجمع مهجري حلب، بيان للمطالبة بمحاكمة عادلة للمتورطين بالاختراقات الأمنية، صفحة التجمع على الفيس بوك، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/45oVOiT، تاريخ: ٢٤/٠٨/٢٠٢٣.

[38] شبكة شام، ” باعتبارهم “أولياء دم”.. “تنظيم حـ ـراس الديـ ـن” يُطالب بتحقيق “مستقل” مع خلايا التحالف في صفوف “تحـ ـرير الشـ ـام””،الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3Ey8wjH، تاريخ:٢٤/٨/٢٠٢٣.

[39] عبد الله البشير، “قتلى بين عناصر قوات النظام السوري بهجوم لفصائل المعارضة جنوبي إدلب”، العربي الجديد، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/45JElBj، تاريخ: ٢٦/٠٨/٢٠٢٣.

[40] مصدر خاص لكاندل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى