الاشتباكات البينية: الهاجس الذي يؤرق المجموعة المقاتلة الواحدة
بقلم: التجاني صلاح عبد الله المبارك
كاتب وباحث. مؤلف (قوة الدولة والقوة الإلهيّة)
تحدث الاشتباكات البينية أو الاقتتال الداخلي داخل المجموعة المقاتلة الواحدة لعدة أسباب، بعضها ظاهر وأخرى مستترة، وتكون نتيجتها ومحصلتها في النهاية فشل المجموعة المقاتلة الواحدة، وتفككها وتشظيها إلى مجموعات أخرى صغيرة متفرقة، وذهاب ريحها في آخر الأمر.
الغالب في حدوث هذا النوع من الاشتباكات والاقتتال البيني هو حدوثها داخل مجموعات وتشكيلات لم تتلق تدريباً جيداً، ولم تكن لها قاعدة وخلفية حربية جيدة، وأساس قتالي ثابت يتم الاستناد عليه؛ بمعنى آخر غير مؤهلة تماما، لذلك فإن فرضية حدوث الاشتباك البيني الداخلي المسلح يظل فرضية متوقعة الحدوث وهاجساً مؤرقاً في كل لحظة مع استمرار المعارك والعمليات واستطالة أمدها.
يمكن فهم الاشتباك أو الاقتتال البيني المسلح غير الدولي بناء على ذلك، بأنه حدوث اقتتال داخلي بين أفراد مجموعة أو وحدة واحدة على نحو غير متوقع، وذلك بعد تفاقم وتصاعد الخلافات الداخلية الناجمة من عدة أسباب مختلفة، ووصولها إلى النقطة الحرجة، أو هو اضطراب واقتتال داخلي نتيجة ظهور الأخطاء البنيوية المتراكمة في جسم الوحدة المقاتلة الواحدة، والتي تظهر على السطح تلقائياً عندما تشارك الوحدات فعلياً وعملياً في الحرب.
ويعرف أيضاً النزاع أو الاقتتال المسلح غير الدولي: أنه مواجهة مسلحة طال أمدها، تحدث بين القوات المسلحة الحكومية وقوات جماعة مسلحة واحدة أو أكثر، أو بين هذه الجماعات التي تنشأ على أراضي دولة ما.
في ذات السياق تختلف مسميات الاقتتال الداخلي البيني المسلح بحسب المجموعات والفواعل المقاتلة من حيث التكوين البنيوي؛ إذا كان الاقتتال داخل مجموعة أو وحدة واحدة بسبب من الأسباب الظاهرة أو المستترة وهو ما سنتعرض له لاحقاً في هذه المساحة، يصنف اقتتال أو اشتباك بيني داخلي وهو من أسوأ أنواع الاشتباكات الداخلية التي تتطلب وتستدعي استراتيجية الحل الصفري على المستوى العسكري، لأن الهدف عند كلا الطرفين المتقاتلين ليس تحصيل أهداف الحرب والانتصار على الطرف الآخر، أو اكتساب المصالح أو اكتساب الغنائم، لكن إفناء الطرف الآخر المقاتل في نفس الوحدة ليس فناءً تاماً وحسب، بل إنه لإنجاز أهداف الحرب الموضوعة فإنه يتعين إزاحة وإفناء هذا الطرف.
أما إذا كان الاقتتال الداخلي المسلح بين المجموعات داخل إقليم واحد معين بسبب الأعراق والنشأة القبلية والطبيعة الديمغرافية، يكون الاقتتال الداخلي تطهيراً عرقياً، وهو أيضاً من أسوأ أنواع الاقتتال البيني الداخلي، على نحو ما جرى في رواندا ويوغسلافيا سابقاً، وما تمارسه إسرائيل في فلسطين بكل غشم في الوقت الحاضر!
الأدوات التي يمكن استعمالها لتقييم الخصائص المختلفة للنزاع المسلح غير الدولي
توجد عدة أدوات يمكن استعمالها لتقييم الخصائص المختلفة للنزاع المسلح غير الدولي، منها على سبيل المثال:
- مقترب هارفارد: The Harvard Approach
في هذا المقترب وهو أحد المقتربات النظرية لتحليل النزاع، تم التأكيد على الاختلاف القائم بين المواقف التي تعني (ما يزعم الناس أنهم يريدونه) من جهة، والمصالح التي تعني في حقيقتها (لماذا يريد الناس ما يزعمون بأنهم يريدونه) من جهة أخرى، ويجادل هذا المقترب بأنه من الإمكان حل النزاع المسلح غير الدولي فقط عندما يتم تركيز الفاعلين أثناء التفاوض على المصالح بدلا من التركيز على المواقف، وعندما يعملون على التوصل إلى تطوير واستحداث معايير معينة ومقبولة من طرف الجميع للتعامل مع اختلافاتهم الراهنة.
- مقترب الاحتياجات الإنسانية: The human Needs Theory
تجادل هذه النظرية بأن أسباب النزاعات تكمن في مجموعة من الاحتياجات الإنسانية التي لم يتم إرضاؤها، وتدعو هذه النظرية إلى تحليل هذه الاحتياجات، والعمل على التواصل بشأنها وإرضائها من أجل الوصول إلى حل النزاع.
- مقترب تحويل النزاع:
وهذا المقترب يهتم بوضع حدود للنزاع، من خلال ربط النزاع بالبيئة التي نشأ فيها، ومحاولة تجديد هذه العلاقة قصد تغيير شكل النزاع.
ورغم ما تنطوي عليه هذه المقتربات من وجاهة في تحليل وتقييم الخصائص المختلفة للنزاع، إلا أن ما يمكن ملاحظته، أنها اتفقت على أصل النزاع القائم، وهو اختلاف الفاعلين حول المصالح بحسب لغة مقترب هارفارد، أو الاحتياجات الإنسانية وفقا لنظرية الاحتياجات الإنسانية.
الاحتياجات يمكن اعتبارها مصالح في حد ذاتها، لأن احتياج الأفراد إلى أشياء باختلاف أنواعها، احتياجات قومية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، هي بهذا الاعتبار مصالح وضرورات.
مع ذلك تعتبر المصالح وفق مقترب هارفارد هي أيضا احتياجات لازمة وضرورة أجمع عليها الأفراد أو الفاعلين، قد تكون المصالح أيضا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قومية أو غيرها بحسب توجهات وطموحات وبواطن الفاعلين.
أسباب ودوافع حدوث الاشتباكات البينية المسلحة غير الدولية
يمكن هنا أن نسرد بعضا من الأسباب أو المواقف التي تؤدي إلى حدوث الاشتباكات البينية أو النزاع المسلح داخل المجموعة المقاتلة الواحدة على النحو الآتي:
أولا: وجود خلافات فكرية أو تنظيمية أو قبلية أو عقائدية داخل المجموعة المقاتلة
ولأن المجموعات المقاتلة التي يحدث داخلها الاقتتال والاشتباك البيني لم تتلق تدريباً وتأهيلاً جيداً يمكن معه الاعتماد عليها ووضع الثقة الكاملة فيها لإنجاز العمليات العسكرية، هذا من شأنه أن يعجل بتفاقم وبروز الخلافات الداخلية بينها، من ذلك وجود الاختلافات الفكرية أو التنظيمية، إذ يعتقد كل فريق في المجموعة بصحة آرائه التنظيمية أو الفكرية خلافا لما هو قائم، ومع استمرار الاحتداد والخلاف وتطورات الساحة القتالية، فإن كلا الطرفين يتمسك ويزداد اقتناعا بوجود الخطأ التنظيمي في إدارة الحرب.
وعندما يكون أصل الخلاف قائم على أصول وأسس قبلية، وتتواجه فيه مجموعات تنتمي إلى طبقات اجتماعية أو إثنيات أو أعراق أو ديانات أو طوائف مختلفة، وهدفها هو الوصول إلى السيطرة على السلطة في الدولة فإن النزاع الداخلي المسلح داخل الدولة ربما يتجاوز الوحدة الواحدة ويمتد إلى الوحدات الأخرى، ويؤدي إلى الوقوع في الفخ الإثني، ومن ثم حرب أهلية بين مختلف الجهات والمكونات.
إضافة إلى أنه قد يكون منشأ الخلافات والاضطرابات في بعض الأحيان نتيجة الاختلافات العقائدية والأيدلوجية داخل المجموعة الواحدة، وبالتالي تكون طبيعة الاقتتال الداخلي عند وقوعه أقرب إلى الحروب المقدسة، التي يؤمن كل فريق فيها بمعتقداته ومقدساته، وهذا من أفظع الحروب التي تقع، لأنهما يتقاتلان في هذه الحالة من أجل إخفاء معتقد باطل وضار، في رؤية كل منهما للآخر، ومن ثم فإنه ينبغي القضاء على الطرف الآخر وإخفاؤه إخفاءً تاماً وأبدياً.
ثانيا: تتابع الهزائم على المجموعة
توالي وتتابع الهزائم على المجموعة المقاتلة من الطرف الثاني قد يكون سبباً أيضا في اندلاع الاقتتال الداخلي داخل الوحدة أو المجموعة المقاتلة الواحدة، من ناحية تشريحيّة نفسية ربما يفقد الأفراد داخل المجموعة الثقة بالقائد الذي يتولى مسؤولية إدارة العمليات، الذي تتوالى الهزائم والخسائر بسبب قصور وخلل إدارته للحرب، ومن ثم يقوم الأفراد بتوجيه النيران إلى الداخل بدلا عن الخارج، في محاولة لتصحيح المسارات.
ثالثا: الغنائم والمكاسب
ينشأ النزاع الداخلي المسلح في بعض الأحيان نتيجة توفر المكاسب والاغتنام في الحرب، وتكون المحصلة بدلاً عن التوزيع العادل للمكاسب والثروة هي اندلاع اقتتال داخلي من أجل المكاسب، يحدث هذا في الغالب عند جماعات المرتزقة واللصوص، والعصابات البربرية، وربما الأفراد الذين يعظمون المصالح والمكاسب الشخصية.
رابعا: انعدام العدل والمساواة داخل المجموعة
يمثل انعدام قيم العدل والمساواة داخل المجموعة المقاتلة أيضاً سبباً رئيساً في تفجر ووقوع الصراع والنزاع الداخلي أثناء سير المعارك، ويكون السبب هنا نفسياً لدى الأفراد، بما يمثل ذلك غبناً وظلماً واقعاً لابد من إزالته متى ما تواترت الفرص المناسبة.
خامسا: القيادة الفاشلة وعدم الكفاءة
القائد The leader هو الشخص الذي يستخدم في كل الأحوال نفوذه وقوته ليؤثر على سلوك وتوجهات الأفراد من حوله، ويمتلك المقدرة على تغيير هذا السلوك لإنجاز أهداف محددة، كما أن هؤلاء القادة ينقسمون إلى نوعين أساسيين، إما قادة طبيعيون تولدت لديهم صفات ومقومات القيادة والتأثير والتوجيه والتغيير بالفطرة أو بالوراثة، وهم القادة الذين يمتلكون صفات الكاريزما أو القوة الشخصية، أو قادة إداريون وهم قادة المؤسسات الذين اكتسبوا صفات القيادة والتأثير من مركزهم في التنظيم.
القيادات الفاشلة التي ينعدم لديها المقدرة على التأثير والتوجيه والمعرفة الكاملة باستراتيجيات وقواعد الحرب، هم سبب رئيس أيضاً في وقوع الاقتتال البيني الداخلي بين أفراد المجموعة الواحدة، وذلك لعدة أسباب منها على سبيل المثال:
- ضعف الاتصال وعدم التفاعل الواضح بين القيادة والقادة الميدانيين على الأرض.
- في بعض الحالات، انقطاع الاتصال تماما بين القائد والوحدات المقاتلة فضلاً عن ضعفه.
- ضعف الخطط الحربية المحكمة أو وجود ثغرات ونقاط ضعف بها، أو تسرب الخطط الحربية إلى الطرف الثاني بسبب عدم وجود السرية المحكمة، أو اختراق من استخبارات الطرف الثاني.
- سخرية واستهزاء القائد بأفراد المجموعة المقاتلة، أو إقصاء على نحو غير متوقع لبعض قادة الحرب الميدانيين.
- أن يكون القائد ناقص الإرادة ويفتقد أوراق القوة.
- موت القائد أو اغتياله.
سادساً: اندلاع القتال والنزاع الداخلي المسلح نتيجة الخطأ والرعب
في بعض الحالات يندلع الاقتتال الداخلي نتيجة الخطأ من نيران صديقة داخل نفس المجموعة، وريثما تصل المجموعة القتالية إلى حقيقة الموقف، يكون الاقتتال البيني المسلح قد أودى بحياة الكثير من الأفراد.
سابعاً: الفتنة والوشايات والدعايات النفسية
تعتبر الفتنة من قبل أطراف وفواعل خارجية من مصلحتها إحداث أكبر قدر من الخسائر وسط المجموعة المقاتلة الواحدة، أيضا من أكبر الأسباب والعوامل المؤدية لوقوع ونشوب الاشتباك البيني المسلح، غير أن هذا العامل يتطلب معرفة كبيرة واحترافية للإيقاع بين أطراف المجموعة، وفي ذلك تقوم الأطراف الأخرى باستعمال الدعاية النفسية والإعلامية، واللجوء للحيلة والمكيدة والخدع الاستراتيجية؛ التي من شأنها إحداث قدر كبير من زعزعة الثقة والاتزان لدى أطراف المجموعة المقاتلة الواحدة، خاصة إذا كان جلهم من الجهلة والسفهاء.
ثامناً: الرغبة في تحقيق مكاسب وطموحات شخصية
ولأن من نوازع النفس الإنسانية التوق للاستئثار بالمكاسب والخير، وتحصيل المصالح والطموحات الشخصية والنزعات الفردية، فإن هذا بحد ذاته يعتبر من أهم الأسباب المؤدية أيضا لاندلاع الاشتباكات والاقتتال البيني المسلح، خاصة إذا اجتمع في بعض الأفراد نزعات للطموحات الشخصية الفردية، مجتمعة مع الشعور الداخلي بالعلو والعظمة والأهمية، وهذا ومثله يمكن قراءته في المجموعة الواحدة التي ينضم في صفوفها الكثير من أنصاف المتعلمين والجهلة والشخصيات غير السوية.
تاسعاً: ضعف التدريب والتأهيل داخل أفراد المجموعة المقاتلة
المقاتلون المؤهلون هم أفراد خضعوا لتدريبات قتالية مستمرة، لزيادة القدرة القتالية للمؤسسة العسكرية، وهم مدربون على استعمال مختلف الأسلحة وكافة الفنون العسكرية، ليصبحوا مؤهلين وقادرين على أداء واجباتهم الدفاعية والهجومية ويتحول الأفراد تبعا لذلك إلى قوة ضاربة.
أما ضعف التدريب والتأهيل داخل أفراد المجموعة المقاتلة الواحدة هو من أسباب اندلاع الاقتتال الداخلي المسلح، إذ ينعدم لدى الأفراد الكثير من أساسيات القتال والاحتراب، ومن أهمها الامتثال للقائد والطاعة وتنفيذ الأوامر الصادرة على كل الأحوال، يمكن القول أن سوء النهايات وبشاعتها هي نتيجة حتمية للمقدمات الناقصة، وغياب العقد الناظم بين المكونات المقاتلة أو ضعف آليات تفعيله وتنفيذه.
عاشراً: استقطاب أو اختراق خارجي لأفراد داخل المجموعة المقاتلة
يمثل الاستقطاب الخارجي لبعض أفراد المجموعة المقاتلة الواحدة وتكوين شراكات متعددة بينهم، سبباً رئيساً من أسباب وقوع الاقتتال البيني الداخلي، إذ تقوم بعض الأطراف والفواعل الخارجية بعمليات استقطاب واسعة لعدد من الأفراد مع وعود مؤكدة بالمقابل المجزئ حسبما اتفق عليه، من أجل إزاحة أي أطراف غير مرغوب فيها، وفي هذه الحالة تمثل هذه الأطراف تهديداً وجودياً لهم، ينبغي إزاحتهم بكل عنف وضراوة.
حادي عشر: تضارب المصالح وتنامي النزعات الانفصالية داخل المجموعة الواحدة
وفي سبب آخر يكون جزءاً من حدوث الاقتتال الداخلي البيني المسلح، هو تنامي النزعات الانفصالية عند بعض العناصر، ورغبة الأفراد في محاربة سلوك الحوكمة الراهن، مع توفر روح المغامرة والمخاطرة بدرجة كبيرة عندهم، والتي تمكنهم من وضع تصورات وأهداف ربما تختلف مع الأهداف الموضوعة، وربما أيضاً تصل إلى درجة التضارب معها، ويكون نشوب الاقتتال الداخلي البيني هو بمثابة إعلان التمرد والانفصال، في خطوة لتحصيل وتحقيق الأهداف الجديدة والاستراتيجية المنفصلة تماما.
ثاني عشر: وجود عناصر مثيرة للفوضى والنزاعات داخل صف المجموعة الواحدة
في ذات الأسباب المتعددة لاندلاع الاشتباكات والقتال البيني المسلح داخل المجموعة الواحدة، يوجد في بعض الحالات عناصر يغلب عليها التحلل والتجرد من كل الأخلاق القويمة، ومن طبعها إثارة النزاعات والخلافات دائماً، وفي الأغلب هي عناصر ملحقة بالمجموعة، أو مرتزقة تعمل من أجل المقابل المادي والمكاسب الشخصية.
ما سبق ذكره من أسباب ومواقف ودوافع حدوث الاشتباكات البينية المسلحة داخل المجموعة المقاتلة الواحدة، يوضح جليا في تقديري، أن حدوث ووقوع الاقتتال الداخلي البيني هو علامة من علامات فساد المجموعة المقاتلة، وفي الوقت ذاته عدم حدوث الاقتتال الداخلي البيني داخل المجموعة المقاتلة الواحدة هو علامة من علامات عافية ونجاعة المجموعة وصحتها.
خلاصة القول: فساد المجموعة المقاتلة الواحدة نتيجة وقوع الاقتتال البيني الداخلي نتيجة سبب من الأسباب السابقة أو ربما غيرها، تكون محصلته انهيار مفاجئ لكل المجموعات والوحدات المقاتلة، وبالتالي انهزام وشيك أمام الفاعل الآخر.