معالم السياسة التركية الخارجية بعد الانتخابات الأخيرة.. الثابت والمتغير
تحليل سياسي – أحمد الحسن
مقدمة:
شهدت تركيا ما بين 14أيار/مايو 2023 و 28أيار/مايو 2023 أهم انتخابات مرت على تركيا خلال العقود الأخيرة سواء من ناحية اهتمام الداخل التركي ومشاركة الناخبين في الصناديق وفي الاستقطاب ما بين الأحزاب السياسية أو على مستوى اهتمام غير الأتراك بهذه الانتخابات من دول العالم الإسلامي ومحوري الشرق والغرب حيث انعكست نفس الانقسامات الداخلية على المهتمين بالملف التركي من العالم الإسلامي ومحور الشرق والغرب وانعكست هذه الانقسامات الداخلية التركية حتى على غير الناخبين داخل تركيا وخارج تركيا ووصلت إلى مستوى قيام ناشطين متطوعين من الكثير من الدول بدعم حملات الطرفين باعتبارها تنعكس على السياسة الخارجية وليست متعلقة بالسياسة الداخلية فقط ولهذا لا يمكن إنكار أهمية التحولات في السياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات الأخيرة وإعطاء هذه التحولات أهمية من ناحية الكواليس والمعلومات ومن ناحية خطط العمل القادمة.
أولاً: معالم السياسة الخارجية التركية من خلال الفريق الجديد الذي تم تعيينه بعد الانتخابات:
تعتبر الحكومة الجديدة ومدراء الصف الأول وكذلك مدراء المؤسسات السيادية في تركيا إضافة إلى كوادر الرئاسة التركية صورة تعكس معالم السياسة الخارجية القادمة في تركيا استناداً الى:
- التاريخ السياسي لهذه الشخصيات
- علاقاتها الدولية التي تتميز بها والتي تكونت عبرة فترة طويلة من شغلها لمواقع حساسة ومهمة
- الخلفية الثقافية والفكرية طريقة تفكيرها وطريقة العمل التي عرفت بها هذه الشخصيات خلال نشاطاتها السابقة
- إضافة إلى المواقع الجديدة التي تم تعيينها فيه حالياً
وتشمل المعالم المستندة إلى صورة هذه الكوادر الجوانب التالية:
- امتلاك كل شخصية من الشخصيات التي تم تعيينها في الحكومة الجديدة صفات مشتركة مع الشخصية الأخرى من حيث العلاقات الدولية المنوعة والعمل في أكثر من مؤسسة دولية
إضافة إلى التخصصات المنوعة التي تمتلكها الشخصيات مع التجارب الخاصة بها في الإدارة وكذلك في الاستجابة للأزمات التي حصلت في المؤسسات التي عملت فيها وتلاحظ هذه الصفات في الفريق الاقتصادي وفي الفريق الأمني وفي الفريق السياسي بشكل أوضح بسبب علاقة هذه الفرق بالسياسة الداخلية والخارجية معاً وهنا يمكن الحديث عن صفات جامعة ما بين محمد شمشك وزير الاقتصاد ونائب رئيس الجمهورية الاقتصادي جودت يلماز في الفريق الاقتصادي وكذلك رئيسة البنك المركزي وبعض الكوادر الأخرى في الفريق إضافة إلى هاكان فيدان وزير الخارجية ومسؤول السياسة الخارجية في الحكومة التركية حالياً وفريق العمل السياسي معه وكذلك إبراهيم كالن مسؤول المخابرات التركية والفريق الأمني معه حيث يجمع هؤلاء كونهم من التكنوقراط الإداري ذو العلاقات الدولية القادر على العمل ضمن فريق رئاسي موسع متناغم على عكس الحكومات السابقة التي كانت فيها بعض المحاصصات الحزبية واضحة بأهداف انتخابية وكذلك بعض المحاصصات داخل حزب العدالة لبعض الأجنحة أيضاً بينما غابت هذه المحاصصات في الحكومة الجديدة وتم التركيز على العلاقات الدولية وتنوع العلاقات الدولية إضافة إلى إمكانية العمل تحت الضغوط الداخلية والخارجية والانسجام التام مع استراتيجية النظام الرئاسي المعتمدة لدى الرئيس أردوغان لأن هذا الفريق بالكامل عمل مع الرئيس أردوغان في كل مراحل بناء الدولة منذ وصول الرئيس أردوغان وحزب العدالة إلى السلطة.
- المزج في آلية عمل هذا الفريق ما بين الحامل الأكاديمي والإداري والدولي
حيث يمتلك كل واحد من هؤلاء لغة غير ملتبسة في التعبير عن تحركاته في السياسة الداخلية والخارجية ويتجنبون المنطقة الرمادية ويتعاملون بلغة الأرقام والشفافية العالية إضافة إلى روح المسؤولية التي افتقدتها بعض الحكومات السابقة نتيجة ارتباط التعيينات السابقة بظروف واستراتيجية مختلفة عن الوضع الحالي وهذا يساهم في القبول الداخلي لهذه الشخصيات ونشاطاتها كما يساهم أيضاً في القبول الدولي لهذه الشخصيات ونشاطاتها إضافة إلى امتلاكهم عاملاً مهماً يتعلق بالمصداقية والإقناع الدولي والداخلي وهو أهم ما يحتاجها الرئيس أردوغان حالياً تمكين النظام الرئاسي والمحافظة على المكاسب.
- اعتماد التوازن ما بين السياسة والاقتصاد والإدارة والبعد الأخلاقي والاجتماعي كأساس للعمل الوزاري
فلكل واحد من هذه الشخصيات وهذه ميزة تحسب للفريق الجديد ولذلك يتناول الرئيس التركي في تصريحاته الأخيرة الإشارة إلى النظام الرئاسي المتناغم الذي يتعاطى مع المشكلات الداخلية والخارجية بعقلية مختلفة تبحث عن الحلول وسرعة الاستجابة للحلول ولا تتعرض لمشكلات البيروقراطية السابقة التي ساهمت في إضعاف التناغم بين المؤسسات.
ثانياً: معالم السياسة الخارجية التركية من التحضيرات الخاصة في الأشهر الثلاثة الأولى:
- الاقتصاد
يعدُّ الاقتصاد العامل الرئيس في كل العمل الحكومي الحالي حيث يتم اعتماد استراتيجية مختلفة تماماً عن المرحلة السابقة في تركيا يتم فيها توظيف السياسة والأمن والإيديولوجيا والثقافة والعلاقات الداخلية والدولية في الاقتصاد على عكس المرحلة السابقة التي كان الاقتصاد والأمن والإيديولوجيا موظف فيها لصالح السياسة بسبب طبيعة وخطورة المرحلة والتهديدات الخاصة بالنظام الرئاسي في تركيا والتهديدات الخارجية على الدور التركي الدولي بينما تعتبر تركيا في المرحلة الحالية مرتاحة على مستوى النفوذ العسكري والأمني والسياسي والعلاقات الدولية وما ينقص تركيا حالياً هو توظيف الارتياح في هذه الملفات ضمن الاقتصاد التركي كمخرج نهائي لكل الهندسة السياسية والأمنية والعسكرية التي تم اعتمادها داخلياً وخارجياً خلال السنوات الأخيرة والتي ساهمت في استنزاف الطاقات التركية والاقتصاد التركي وجاء حالياً وقت استعادة المكاسب الاقتصادية والطاقات والموارد المستنزفة في السياسة خلال السنوات السابقة
- السياسة في خدمة الاقتصاد
يمكن الجزم بأن الحل الاقتصادي لأي مشكلة سياسية وأمنية وعسكرية سيكون أساس عمل وزير الخارجية التركي ورئيس الاستخبارات التركية كما أنه من طبيعة عمل وزير الاقتصاد التركي وفي هذه الحالة يلاحظ خلال المرحلة القادمة بروز سياسة جديدة تركية في حل بعض المشكلات الأمنية والسياسة سواء في ملف الهجرة مع الاتحاد الأوربي أو ملف الانضمام إلى الناتو مع السويد أو ملف الخلافات في سوريا مع ايران أو ملف الخلافات مع روسيا في أوكرانيا عبر المقاربات الاقتصادية للملفات المتعثرة سياسياً وأمنياً وكذلك نفس المقاربة الاقتصادية للملفات المتعثرة مع إسرائيل واليونان وفرنسا والولايات المتحدة على عكس السنوات السابقة التي كان التركيز فيها على الجانب الأمني والسياسي وكذلك في الخلافات مع مصر في الملف الليبي ايضاً.
وفي سبيل ذلك سيتم التزام عدد من المحددات والثوابت في السياسة التركية:
- تحرر الفريق الحكومي من القيود السابقة التي وقع فيها وزراء الحكومات الأخيرة
وذلك من ناحية الصلاحيات ومن ناحية ارتباط القرارات النهائية بالرئيس أردوغان شخصياً لكن في العمل الحالي على مستوى السياسة الخارجية سيكون الرئيس أردوغان راسم الاستراتيجية العامة فقط ومن يحضر المراسم النهائية منها بينما يتولى فريق السياسة الخارجية الإشراف الكامل على المفاوضات الخاصة بها بدون أي تدخل أو عرقلة من الرئيس أردوغان.
- وجود التناغم والتكامل ما بين التصريحات الصادرة من الفرق الحكومية العاملة في نفس الملف
سواء في المخابرات أو الدفاع أو في الخارجية أو في الفريق الاقتصادي على عكس المرحلة السابقة التي كان هذا التناغم غير متواجد فيها وحصول تصريحات متضاربة ما بين المسؤولين والوزراء في نفس الملف بسبب الشرائح المستهدفة بالتصريحات في الانتخابات الأخيرة والاستقطاب الانتخابي الذي كان له الأولوية في هذه التصريحات بينما تستند التصريحات الحالية إلى الشفافية وإظهار التناغم الحكومي والعمل كفريق موحد لتعزيز وتمكين النظام الرئاسي في الصورة الشعبية الداخلية التركية والصورة الدولية التركية.
- التركيز على النقاط المشتركة في السياسة الخارجية وإعطاء فرصة لما يسمى بسياسة الحلول المبتكرة في النقاط الخلافية
وهذه السياسة اعتمدها حزب العدالة في المرحلة الأولى من مراحل وصوله إلى السلطة لتحسين علاقاته الدولية مع الدول العربية وكذلك بعض الدول الشرقية بسبب أن العلاقات كانت متوترة نتيجة سياسات الحكومات السابقة ويتم العودة إلى هذه السياسة حالياً.
- الابتعاد في السياسة الخارجية عن تجاذبات الداخل التركي والتي ساهمت سابقاً في تقلبات السياسة الخارجية
حيث يبتعد الفريق الجديد عن مرحلة التقلبات السابقة لأن هذه التقلبات التي حصلت في بعض الملفات مثل ملف التطبيع مع النظام وبعض ملفات اللاجئين وكذلك بعض ملفات مكافحة الإرهاب كانت ناتجة عن القلق من الناخب التركي وانعكاس السياسة الخارجية على الناخب المتردد بينما لا توجد هذه المخاوف حالياً لدى الفريق الحكومي التركي ولا لدى الرئيس التركي أردوغان ومستشاريه وبناء عليه فالأولوية خلال المرحلة الحالية هو لاستثمار السياسة الخارجية اقتصادياً في الملف الداخلي وليس سياسياً لمصلحة جذب الناخبين وهذا عامل مساعد على نجاح العلاقات الخارجية كما يمنع الدول الأخرى من استثمار بعض الملفات لصالح الضغط على الحكومة التركية داخلياً في ملف الانتخابات.
- اعتماد أعضاء فريق السياسة الخارجية آلية الإدارة بالأهداف
خوصاً في الملفات الدولية وهذه الإدارة هي إدارة تسهل حل المشكلات وليس تعقيدها وهذا يجعل السياسة الخارجية التركية أكثر نضوجاً من المرحلة السابقة وأكثر بعداً عن بعض المواقف المزاجية التي طبعت ملفات دولية خلال السنوات الأخيرة وساهمت في بعض الضغوط الداخلية على تركيا.
- تركيز واجهات السياسة الخارجية التركية على تقديم نموذج قيادي صالح لخلافة أردوغان في المرحلة القادمة
وذلك من خلال إظهار عدة شخصيات تركية قادرة على الدور الذي لعبه أردوغان في السياسة الخارجية وهذا عامل مطمئن في العلاقات الدولية التركية ويساعد على بناء تفاهمات طويلة الأمد في السياسة الخارجية لأن بعض المشكلات التي حصلت في السياسة الخارجية سابقاً كانت تستند إلى القلق من الفراغ في النفوذ التركي الخارجي بعد أردوغان بسبب حالة الاستقطاب السياسي الداخلي في تركيا وبسبب الانشقاقات التي حصلت من مؤسسي حزب العدالة وانضمامهم الى المعارضة وكذلك بعض المشكلات الداخلية الأخرى في حزب العدالة والفريق السياسي التركي القريب لأردوغان.
الخلاصة:
تعكس معظم التقارير الدولية حالياً ارتياح دولي للحكومة الجديدة بسبب الشخصيات التي تم اختيارها وبسبب التناغم فيما بين هذه الشخصيات وبسبب الصلاحيات التي تعكسها هذه الشخصيات في السياسة الخارجية إضافة إلى وجود أولوية تركية متفق عليها ما بين الفريق الرئاسي والحكومي وهو الاقتصاد ثم الاقتصاد ثم الاقتصاد وهذا يعيد الجميع إلى أردوغان الذي عرفوه في المرحلة الأولى من مراحل الوصول إلى السلطة وكذلك الفريق الذي تولى بناء شبكة العلاقات الدولية أيضاً مما يعطي إمكانية الاستفادة من تمكين النظام الرئاسي في تركيا من أجل حضور الدور التركي في الخلافات الإقليمية والدولية والعمل على حل مشكلات دول النزاعات والعمل على حل المشكلات المتعلقة بخطوط الطاقة وخطوط الغذاء الدولية إضافة إلى الترقب الحاصل في المنطقة ودولياً لإعادة إعمار دول النزاعات خلال السنوات القادمة.