أبحاث

هل يكسر بوتين قاعدة عزل الصراع في أوكرانيا

مقدمة:

تنطلق الإشكالية التحليلية في هذه الورقة من شكل تطورات الحرب الأوكرانية وعلاقتها بتصاعد التوتر في الشرق الأوسط بعد حرب غزة وتداعياتها، مع قرب موعد الانتخابات الأمريكية، التي تشكل مؤشرات على أن الشرق الأوسط مقبل على تغيير في دوائر الصراع ودافع كبير بالنسبة لموسكو التي حافظت على قواعد اشتباك منضبطة في الشرق الأوسط منذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا في شهر شباط/فبراير 2024 حيث تم حصر الصراع في أوكرانيا وعدم نقل الصراع إلى الشرق الأوسط مع حرص كل من واشنطن وموسكو على تجميد الصراع في سورية والحرص على عدم ربط ما يحدث في أوكرانيا مع سورية لكن جملة من المتغيرات التي حدثت خلال الشهرين الماضيين مهدت لتحول جيواستراتيجي روسي ربما يدفع بروسيا  لنقل المواجهة إلى الشرق الأوسط بطريقة حرب الوكلاء أو الحرب الهجينة للضغط على الولايات المتحدة والغرب خصوصاً بعد وصول أول دفعة من مقاتلات “إف-16” من حلف الناتو إلى أوكرانيا[1] واستخدام أوكرانيا لهذا السلاح ضد روسيا وتصاعد الهجمات الأوكرانية بالطائرات المسيرة ضد روسيا. [2]

من المهم دراسة هذه التغيرات وتنبع تأثيرها المباشر على الصراع في سورية والشرق الأوسط بشكل عام وتأثير الأحداث الأخيرة، بما في ذلك تطورات الحرب الأوكرانية ودخولها في مستوى مختلف عن السابق في نوعية التسليح والعمليات واغتيال إسماعيل هنية والتحفز الإيران للرد وإمكانية دخول روسيا على خط الدعم والتحريض لإيران ضد الهجمات الإسرائيلية كل ذلك يشير إلى أن المنطقة قد تدخل مرحلة تصعيد خطيرة مرتبطة بدوائر الصراع الدولية.

كيف ولماذا قد تقرر روسيا إشعال حرب شاملة في الشرق الأوسط كرد فعل على الدعم الغربي لأوكرانيا؟ وما هي أهداف الولايات المتحدة في ضبط المشهد العسكري في المنطقة وكيف تحاول روسيا خلط الأوراق التي تحاول الولايات المتحدة ترتيبها من جديد بعد حرب غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؟ كل ذلك سنناقشه في هذه الورقة.

أولاً الخلفية التاريخية:
  • الشرق الأوسط من التحييد إلى الانخراط في الصراعات الدولية:

تاريخياً، كانت هناك توافقات ضمنية بين القوى الكبرى (واشنطن – موسكو) على تحييد صراعات الشرق الأوسط عن تداعيات الصراعات العالمية، مثل الصراع في أوكرانيا، والصراع في الشرق الأقصى هذه الاستراتيجية ساهمت في استقرار نسبي في المنطقة، على الرغم من النزاعات المحلية المستمرة.

  • الدور الجديد للشرق الأوسط في الصراع الروسي الغربي:

مع تصاعد مستوى العنف  في الحرب الأوكرانية مع تطور نوعية التسليح، قد تتغير الحسابات الجيوسياسية بالنسبة لموسكو التي تشعر أنها تخدم الأجندات الأمريكية من خلال تدخلها في سورية حيث ساهمت موسكو بتحجيم الدور التركي ومنع إنشاء خطوط طاقة عبر البحر المتوسط وحافظت على بقاء نظام الأسد وعملت بالتنسيق مع تل أبيب وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة لكن رغم ذلك لاتزال واشنطن تتخذ سياسة الضغط القصوى على موسكو اقتصاديا وعسكرياً وسياسياً  وتزيد من دفعها للغرق بالمستنقع الأوكراني الذي تحارب فيه من سنتين ونصف بدون أي حسم للصراع وبدون أي أفق لموقف تفاوضي يمكن أن يعترف لموسكو بمصالحها في أوكرانيا .

إن الهجوم الأوكراني بالطائرات المسيرة على مطار موروزوفسك في 3 أغسطس 2024 [3] هو مثال واضح على إمكانية أن تتداخل الصراعات الإقليمية والدولية، مما قد يدفع بموسكو للنظر في نقل المواجهة إلى الشرق الأوسط وقد بدأت مؤشرات هذا الأمر تتضح منذ تصريحات بوتين في أثناء زيارة بشار الأسد لموسكو أن الشرق الأوسط مقبل على توترات عنيفة.

 ثانياً: تغير السياسة الروسية في ربط الملفات الدولية من الفصل إلى التوظيف:
  • دوافع روسيا:

منذ  أن تدخلت روسيا في سورية في شهر سبتمبر /أيلول 2015 كانت روسيا ترغب في وضع أوكرانيا على طاولة المفاوضات الأوكرانية مع الغرب لكن الغرب لم يعر أي اهتمام لذلك بل دعم التدخل الروسي في سورية كترضية لها لإشغالها عن أوكرانيا وهو ما دفع بوتين لغزو أوكرانيا بعد 7 سنوات من تدخله في سورية وبعد سنتين من الحرب الروسية في أوكرانيا بات توسيع الصراع في الشرق الأوسط مصلحة لروسيا الغارقة في الحرب الأوكرانية وهو ما بدا في أثناء زيارة بشار الأسد لموسكو يوم (24 تموز/يوليو 2024) حيث حذر الرئيس الروسي بوتين من أن المنطقة تتجه نحو توسع التوتر ويبدو أن تصريحات بوتين كانت مبنية على معلومات أمنية حصلت عليها روسية من زيارة نتنياهو لواشنطن ولقائه مع الرئيس الأمريكي بايدن في البيت الأبيض، كما أشار بوتين إلى أن سوريا ستكون في قلب هذا الصراع ويجب الاستعداد لذلك وهو ما يعكس رغبة روسية للتدخل والتحكم بهذا الصراع من خلال شركاء روسيا المحليين في الشرق الأوسط وعبر إدارة حرب هجينة  .

بعد اغتيال إسماعيل هنية، سارع الأمين العام لمجلس الأمن الروسي، سيرغي شويغو، إلى طهران في 5 أغسطس 2024 لإجراء محادثات مع كبار المسؤولين الإيرانيين، هذه الزيارة تعكس توجه روسيا نحو استغلال التوترات في الشرق الأوسط كوسيلة للرد والتخفيف من الضغط الغربي في أوكرانيا.

  • الرد على الدعم الغربي لأوكرانيا:

إن الهجوم الأوكراني بالطائرات المسيرة على أهداف داخل روسيا، والتوغلات الأوكرانية في مناطق مثل كورسك، يعكس تصاعد الدعم الغربي لأوكرانيا، والذي يتزامن مع امتناع روسيا عن تسليم طائرات سوخوي35 ومنظومة S400.  لإيران تحت ضغوط أمريكية وهذا الامتناع يشير إلى تردد روسيا في تصعيد الصراع على عدة جبهات في وقت واحد، لكن بعد اغتيال إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية، الذي تزامن مع زيادة الدعم الغربي النوعي من الغرب لأوكرانيا سارع الأمين العام لمجلس الأمن الروسي، سيرغي شويغو، إلى طهران في 5 أغسطس 2024 لإجراء محادثات مع الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي أكبر أحمديان، ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، وبحث الوفد مجالات التعاون والوضع الأمني في الشرق الأوسط.. هذه الزيارة تعكس توجهاً روسيا نحو استغلال التوترات في الشرق الأوسط كوسيلة للرد على الضغط الغربي في أوكرانيا من خلال استغلال جرح النرجسية الإيرانية ورغبة طهران بالانتقام وبحث ترتيب نقل الأسلحة الروسية المتطورة إلى طهران.[4]

ثالثاً: استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق في حرب غزة:

يبدو أن موسكو التقطت تكتيك واشنطن في الشرق الأوسط واكتشفت نقاط ضعف هذه الاستراتيجية والثغرات التي يمكن لروسيا أن تضغط بها على واشنطن وهذه الاستراتيجية تتلخص يما يأتي:

  • ضبط المشهد العسكري في الشرق الأوسط:

إن حشد البنتاغون لـ 12 سفينة حربية في الشرق الأوسط في 1 أغسطس 2024  [5] بعد اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية وفؤاد شكر المستشار العسكري لقائد حزب الله اللبناني من قبل تل أبيب يعكس استراتيجية الولايات المتحدة في منع التوترات من الانفجار إلى صراع شامل بين إيران وإسرائيل. وحصر الحرب في قطاع غزة.

  • الخوف من زيادة التعاون الروسي الإيراني:

تخشى الولايات المتحدة من تنامي التعاون الإيراني الروسي في الشرق الأوسط وأوكرانيا حيث سبق وأن زودت إيران روسيا بطائرات مسيرة من نوع ” شاهد” [6] في الحرب الأوكرانية وهو ما شكل عامل استفزاز وقلق بالنسبة للولايات المتحدة التي تخاف اليوم من وصول سلاح نوعي ومتطور من موسكو إلى إيران وهو ما يعني أن الارتباط بين الصراع في أوكرانيا والشرق الأوسط بات عضوياً[7]  وهو ما يعني أن انتقال تأثير الصراع في أوكرانيا على الشرق الأوسط والعكس أمراً بات ضمن التحديات التي تواجه واشنطن.

رابعاً: الموقف الروسي من حرب غزة وبداية التحول في الموقف الإسرائيلي من الدور الروسي في الشرق الأوسط :

عندما تدخلت روسيا في سورية نهاية 2015 تم تنسيق هذا التدخل مع إسرائيل وتم إنشاء غرف تنسيق وخط ساخن لتجنب الحوادث العسكرية وفتحت موسكو أجواء سورية أمام حركة الطيران الحربي الإسرائيلي لكن منذ اشتعال معركة طوفان الأقصى ثمة اعتقاد لدى الأوساط السياسية في واشنطن عن يد خفية لموسكو في الحرب من خلال تقديم الدعم الاستخباراتي لحماس وقد استقبلت موسكو عدداً من مسؤولي حماس بعد الحرب، و دافعت موسكو عن حركة حماس في مجلس الأمن كما قامت موسكو باستفزاز إسرائيل عندما أنشأت مصنعاً للمسيرات الإيرانية وهو ما دفع بإسرائيل للخروج عن حيادها الذي حافظت عليه طول الحرب الروسية الأوكرانية لصالح الدعم السياسي لأوكرانيا ثم إن موقف الحياد الروسي من حرب غزة أمام الانحياز الأوكراني المطلق لصالح إسرائيل ضد إيران التي اعتبرتها أوكرانيا عدواً، وقطع علاقاتها مع وحماس التي تعتبرها منظمة إرهابية، وضع العلاقات الروسية الإسرائيلية في حالة عدم ارتياح من الطرفين  .[8]

الخاتمة:

إن زيارة شويغو إلى طهران والتعاون العسكري المتزايد بين روسيا وإيران يشير إلى أن روسيا تسعى لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط كجزء من ردها على الدعم الغربي لأوكرانيا، في المقابل، تهدف الولايات المتحدة إلى الحفاظ على استقرار المنطقة ومنع حدوث تصعيد خطير.

يبدو أن القرار الروسي بنقل المواجهة من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط يعكس تحولا في السياسة الروسية من فصل الملفات إلى ربط الأزمات الإقليمية بالصراع الأوكراني، مما يهدد بتوسيع نطاق النزاع إلى الشرق الأوسط، مستغلة الخدش الإسرائيلي للكرامة الإيرانية حيث أمر المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بشن ضربة مباشرة على إسرائيل في 31 يوليو 2024، بالتزامن مع تسليم روسيا لإيران معدات دفاع جوي، وهو يعزز مخاوف اندلاع توترات واسعة النطاق.

وهنا يمكن أن تكون الساحة السورية والعراقية هي الساحات المرشحة لإدارة مثل هذه المواجهات عبر الوكلاء وهو ما يحتم على الدول الإقليمية مثل تركيا والأردن والدول العربية الاستعداد لهذا السيناريو المحتمل والاستعداد لملء الفراغ الذي سينتج عن تحييد النفوذ الإيراني في سورية.

لكن يبدو أن روسيا لاتزال غير واثقة من حليفها الإيراني الذي لايزال يأمل بتحقيق صفقة سياسية مع الولايات المتحدة حيث لاتزال المفاوضات جارية قبل الرد الإيراني على اغتيال هنية مع إدراك إيران أنها لن تخوض حرباً بالوكالة لصالح روسيا ربما تنتهي بضرب كل المكاسب الاستراتيجية التي حققتها إيران في المنطقة خصوصاً مع تعزز إمكانية وصول إدارة جمهورية بقيادة ترامب إلى البيت الأبيض والتي تضع على رأس أولوياتها الحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.

لكن ذلك لن يمنع إيران من تحريك أذرعها وأدواتها والتهديد بتوسيع دائرة الحرب للضغط على الولايات المتحدة التي باتت تدرك طبيعة التحركات الروسية في المنطقة وتعمل على منعها بكل الوسائل

تصاعد التوترات في الشرق الأوسط في ظل الوضع الراهن قد يؤدي إلى انعكاسات خطيرة على الأمن العالمي، حيث يمكن أن تصبح المنطقة ساحة جديدة لصراع القوى الكبرى، مما يزيد من تعقيد النزاعات الدولية.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

[1] . Bloomberg:    Ukraine Receives First F-16 Fighter Jets After Long Wait نشر نهاية شهر  تموز/ يوليو 2024

[2]  . مونتكارلوا:   أوكرانيا تستهدف مطارا ومنشأة نفطية في روسيا بالطائرات المسيّرة وتدمر غواصة نشر 3/8/ 2024 .

[3]  . الشرق الأوسط: أوكرانيا تستهدف مطاراً عسكرياً في الأراضي الروسية نشر 3 /8/ 2024

[4] .   BulgarianMilitary  :  Iran receives first deliveries of S-400s from Russia’s Almaz-Antey ، نشر يوم 6/8/2024

[5] . سكاي نيوز عربية : واشنطن تنشر 12 سفينة حربية و4 آلاف جندي بالشرق الأوسط ، نشر يوم  1/8 /2024

[6]  . معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط : الطائرات الإيرانية المسيّرة إلى روسيا: القدرات والقيود ، نشر يوم 1/8/ 2022

[7]  .   معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط.  التعاون الروسي الإيراني والتهديدات للمصالح الأمريكية   نشر في 17 /4 /2024 .

[8]  .   مركز  بروكينجز :  ما هو دور روسيا في الأزمة بين إسرائيل وغزة؟   نشر 31/1 2024 .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى