تحليلات

نهج التكيف عند النظام السوري من خلال ترتيب المؤسسات الأمنية والعسكرية

المقدمة

أصدر رأس النظام السوري يوم 22 أيلول/ سبتمبر 2024 مرسوماً تشريعياً بالعفو العام عن الجرائم المرتكبة قبل 22 سبتمبر 2024. شمل جرائم الفرار الداخلي والخارجي وفق قانون العقوبات العسكرية، بشرط تسليم المتوارين والفارين أنفسهم خلال 3 أشهر للفرار الداخلي و4 أشهر للفرار الخارجي والجنح والمخالفات ويأتي هذا المرسوم ضمن سلسلة من الإجراءات التي بات النظام يتخذها على مستوى ترتيب المؤسسات الأمنية التي تحولت لجهاز مركزي يتبع لمكتب الأمن الوطني الذي يرأسه كفاح ملحم، وضبط المنظومة الاقتصادية الرديفة بعد كف يد أسماء الأسد عن شغل منصب رئاسة الهيئة السورية للتنمية وتأسيس الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية التي باتت معنية بمتابعة الملف الاقتصادي والأمني بشكل أساسي، ويبدو أن النظام يتوجه نحو إعادة ترتيب المؤسسة العسكرية ضمن هذا السياق خصوصاً أن هذا العفو قد تكرر من النظام سابقاً خلال عام 2013, 2015 ، 2018, 2022 , 2022 , 2023.

ولفهم سياسات النظام السوري في إصدار المراسيم الخاصة بالمؤسسة العسكرية والأمنية   والمنظومة الاقتصادية في نقل وتعيين المسؤولين واستحداث الهيئات الجديدة والإدارات وإصدار المراسيم.

لا بد من التمييز بين عدد من المراحل التاريخية التي مر بها النظام السوري خلال 13 عام مضت من الثورة وهي ثلاث مراحل أساسية شكلت أهم التحولات التي مر بها النظام على مستوى البنية العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وهو ما سنعالجه في هذا التقرير مع الخلوص بالنتائج إلى الأهداف التي يرغب النظام بتحقيقها.

المرحلة الأولى من شهر آذار/ مارس 2011 وحتى تفجير خلية الأزمة 18 تمّوز/يوليو 2012

حيث بدأ النظام قبل تفجير خلية الأزمة 18 تمّوز/يوليو 2012 منقسماً على نفسه حول طريقة التعاطي مع الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في سورية في شهر آذار/مارس2011 بين تيار يرى ضرورة الانفتاح على الحوار مع المحتجين والمعارضة وإجراء بعض الإصلاحات السياسية والضغط على بشار الأسد للاستجابة لمطالب المحتجين وفتح منتديات الحوار في جميع المحافظات السورية حيث كان من أهم تلك الحوارات اجتماع فندق صحارى في 27‏/حزيران/يونيو 2011 بين نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع وبين شرائح مدنية وأكاديمية وسياسية ودينية أعلن فيه الشرع أن المؤتمر هو بداية حوار وطني للانتقال بسورية إلى دولة تعددية ديمقراطية لكن هذا المؤتمر كان هو الأول والأخير  وكان من أبرز الدافعين بهذا الاتجاه مجموعة من القيادات الحزبية والأمنية في النظام .

بالمقابل كان الغالب من القيادات الأمنية والعسكرية والمحسوبة على عائلة الأسد تدفع تجاه الحل الأمني باعتبار أن ما يحصل في سورية هو مجرد مؤامرة خارجية لقلب نظام الحكم تقودها عصابات مسلحة لنشر الفوضى وبالتالي لا بد من حسم القرار نحو الحل الأمني لأن المطلوب ليس الحوار والإصلاح السياسي وإنما تفكيك الدولة السورية.

في هذه المرحلة كان النظام يناور في الحل الأمني بارتكاب المجازر واستعمال العنف ضد المحتجين كما في درعا وبانياس واستعمال لغة التهديد المبطن كما جاء بعد أحداث درعا في خطاب رأس النظام في مجلس الشعب في 30 ‏/03‏/2011  والذي جاء مخيباً لآمال المراهنين على موقف الأسد في انتهاج الإصلاح ،  وبين الإصلاح الشكلي بإلغاء قانون الطوارئ والانتخاب على دستور جديد لا يحتوي على المادة الثامنة من الدستور وبدا النظام في تلك المرحلة وكأنه يتصارع مع نفسه فاقداً للبوصلة، حتى جاءت حادثة تفجير خلية الأزمة في 18تموز/يوليو 2012

المرحلة الثانية: من تفجير خلية الأزمة في 18تموز/يوليو 2012 إلى إقرار الكونغرس الأمريكي لقانون قيصر منتصف كانون الأول/ديسمبر 2019.

في هذه المرحلة حسم النظام أمره بتفجير خلية الأزمة في مبنى الأمن القومي السوري بحزب البعث الذي انتهى بالخلاص من بعض أركان النظام التي كانت تعارض النهج العسكري في التعامل مع الاحتجاجات بانتهاج المسار العسكري للقضاء على الاحتجاجات وبرزت في هذه المرحلة أكثر وجوه النظام العسكرية دموية كما ظهرت بالمقابل ظاهرة تجار الحرب وزعماء الميليشيات الرديفة لجيش النظام.

فقد ظهر وزير الدفاع فهد جاسم الفريج خلفاً لداوود راجحة وتعزز موقع علي مملوك في مكتب الأمن الوطني بدلاً من هشام بختيار وظهر رفيق شحادة رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية بدلاً من آصف شوكت وتم تقليص دور حزب البعث لصالح الميليشيات العسكرية من باقي الأحزاب السياسية الأخرى مثل الحزب القومي السوري، وحتى شخصية البوطي التي لم تكن حاسمة في التأييد المطلق لمسار الحل العسكري كانت عبئاً على النظام بعد أن أخذ النظام منها ما يريد وأظهر شخصية المفتي أحمد حسون الذي هدد الغرب والدول الأوروبية بطلائع الاستشهاديين وأفتى بتأييد عمليات الجيش العربي السوري ضد الإرهابيين في هذه المرحلة ظهرت الشخصيات العسكرية الأشد إجراماً مثل سهيل الحسن وعصام زهر الدين وقادة الميليشيات التي ارتكبت أفظع الجرائم المصورة كما ظهرت طبقة من التجار الداعمة للنظام مثل رامي مخلوف والقاطرجي ومحمد حمشو وسامر الفوز إضافة لقادة الفروع الأمنية التي ذهبت للحل الأمني والعسكري بالمطلق.

المرحلة الثالثة من بعد إقرار قانون قيصر منتصف كانون الأول/ديسمبر 2019. وحتى الآن

بعد إصدار قانون قيصر بدأ النظام يشعر أن الخطر الذي يهدده لم يعد عسكرياً خصوصاً بعد سيطرته على حلب الشرقية وريف حماة الشمالي ومناطق شرق السكة قي ريف حلب الجنوبي وطريق M5  وسيطرته على الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي ودخول درعا بالمصالحة وتوقيع اتفاق سوتشي عام 2018 وتحوله إلى اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020.

لم تعد فكرة إسقاط النظام واردة ضمن المعطيات العسكرية ولم يعد النظام يخشى على مصيره لعدة أسباب.

  • حيث لا توجد رغبة دولية بتغيير الحدود السياسية أو ترسيخ الحدود الأمنية (بين مناطق النفوذ والسيطرة).
  • ولا أحد من الدول راغبة بدفع ثمن كبير لتغيير النظام.
  • لا يوجد انهيار في المنظومة الأمنية التي بناها النظام.

لكن قانون قيصر والعقوبات الاقتصادية المرهونة بتحقيق تقدم ملموس في مسار الحل السياسي بدأت تشعر النظام بخطر الانهيار الاقتصادي خصوصاً بعد أن وصل سعر صرف الليرة السورية إلى مستويات قياسية.

لقد كشفت نهاية الحرب عن دمار شامل في البنية التحتية والمرافق الخدمية والوحدات الإنتاجية الصناعية والزراعية وفراغ خزينة الدولة من القطع الأجنبي وتعاظم نفوذ أثرياء الحرب مع عجز تام للنظام عن تأمين السلع الأساسية.

ومع توقف العمليات العسكرية بين النظام والمعارضة بدأ مسار التطبيع العربي مع النظام ومسار اللجنة الدستورية يجد النظام نفسه بحاجة لترتيب أوراقه وتقييم أداء مؤسساته واتخاذ الإجراءات المناسبة بناء على هذا التقييم الشامل الذي يشمل الجيش حيث باتت مهمة الجيش لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب بل أصبح لدى الكثير من الكتائب نشاط اقتصادي من خلال تجارة المخدرات ونصب حواجز فرض الأتاوات والدخول بشراكات مع بعض تجار القطاع الخاص ونشاط أمني يتجاوز المؤسسة الأمنية في الخطف وطلب الفديات وهو ما أشعر النظام بضعف قبضته على الجيش خصوصاً مع تنامي ظاهرة أمراء الحرب من ميليشيات “الشبيحة” واقتصاد الحرب الذي يدور خارج فلك سيطرته .

وبناء على ذلك كان تحرك النظام السوري بعد إصدار قانون قيصر محدد برؤية استراتيجية هي عودة النظام لحكم سورية بصورة قريبة من الوضع قبل عام 2011. وحتى يصل إلى هذا الأمر هو يعمل ضمن ثلاث مسارات على المستوى الداخلي:

المسار الأول: إعادة هيكلة مؤسسات النظام العسكرية والأمنية والحزبية والحكومية

بحيث تكون قادرة على حسم أي انتخابات قادمة تفرض على النظام ضمن معايير النزاهة والشفافية وبمراقبة من الأمم المتحدة بحيث تكون كوادر القصر الجمهوري والحكومة والكوادر الحزبية قادرة على خوض الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية بكفاءة وقادرة على المنافسة ومختلفة عن الحالة السابقة التي لم يكن في الميدان إلا النظام الذي يهندس الانتخابات بناء على رؤيته الخاصة ، وإعادة هندسة المؤسسة الأمنية والعسكرية بطريقة تعزيز سيطرته المركزية وتنهي كل جيوب التمرد داخل الجيش .

المسار الثاني: هو التخلص من الشخصيات العسكرية والأمنية والدينية والاقتصادية التي تحالفت مع النظام في فترة الحرب

وكانت الداعم الرئيسي له في حربه ضد قوى المعارضة وذلك لإغلاق كل ملفات المحاسبة والانتهاكات التي مارسها ضباط الجيش في تلك المرحلة وتعليقها بهم للخلاص من هذا التحدي الأخطر الذي يعوق تعويم النظام بسبب حجم الدعاوي القانونية والعقوبات على الانتهاكات الإنسانية وإظهار طبقة من قادة الجيش ورجال الأمن يمكن أن يكون لهم مقبولية في المجتمع الدولي.

المسار الثالث: إعادة بناء منظومة الاقتصاد في سورية

عبر تأسيس منظمات إنسانية وإغاثية وشركات تجارية هي واجهات للنظام القادرة على فتح مسارات موازية تستطيع التهرب من عصا العقوبات الدولية وتأمين القطع الأجنبي للنظام من خلال التحكم بسوق الصرافة والتحويل الخارجي واستغلال المساعدات الإنسانية وإضعاف التجار الذين برزوا خلال الأزمة ومصادرة أموالهم مثل رامي مخلوف وربط خيوط الملف بيد أسماء الأسد والشبكة التي تعمل معها، ثم سحب هذا الملف من يد أسماء الأسد وتحويله إلى ملف أمني سيادي يدار من خلال الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية التي يرأسها منصور عزام بالتعاون الأمني مع فرع الخطيب بحيث يصبح الملف الاقتصادي كله بيد القطر الجمهوري . .

المسار الربع: إعادة الهندسة الاجتماعية

على مستوى تفتيت العصبات المناطقية التي لعبت دوراً في احتضان الثورة ضد النظام وإضعاف حضور الهوية السنية في الدولة بإلغاء منصب الإفتاء وفتح المزيد من المجال أمام التمدد الشيعي على المستوى الاجتماعي وداخل بعض مؤسسات الدولة وإظهار حضور الأقليات العرقية والدينية وإبراز قيادات دينية واجتماعية جديدة أكثر ولاء للنظام وقدرة على ضبط المكونات الاجتماعية وهو ما يقوم بها النظام أيضاً في المؤسسات العسكرية والأمنية حيث أصبح معيار التسريح والترشيح هو الولاء الكامل لرأس النظام بدون أي توجه للمحاور الداعمة له .

على المستوى الخارجي يعمل النظام ضمن مسارين

المسار الأول تغيير خارطة الحلفاء:

يبدو أن الإجراءات التي يتخذها النظام في إعادة بناء مؤسساته الأمنية والعسكرية والمنظومة الاقتصادية مرتبطة  عضوياً بتوجه النظام لتغيير تموضعه الإقليمي بين المحاور حيث بات يشعر أنه بحاجة لإعادة هندسة علاقاته مع محيطه الحيوي والتموضع بطريقة لا يتم فيها استقطابه إلى أي محور من المحاور الإقليمية والدولية كما يعمل النظام من خلال التنسيق مع الإمارات العربية المتحدة أول الدول العربية المطبعة مع النظام على تخفيف ارتباطه بمحور المقاومة الذي تقوده إيران إلى والاقتراب أكثر من محور التطبيع العربي وقد بدت مواقف النظام من حرب 7 أكتوبر مشيرة بوضوح إلى التوجه الجديد لدى النظام مع إرضاء إيران باتفاقيات اقتصادية لم ينفذ منها ولا اتفاق واحد وهو بذلك ينتظر ثمن موقفه من محور المقاومة وحرب 7 أكتوبر من إسرائيل والولايات المتحدة بتعويمه ورفع العقوبات عنه إضافة لتقديم المساعدات الأمنية لإسرائيل في كشف مواقع القواعد الإيرانية العسكرية والأمنية في سورية.

المسار الثاني مقايضة الملفات العالقة بالدعم الاقتصادي والتعويم السياسي:

رغم مبادرة ملك الأردن للتطبيع مع النظام عام 2021 ضمن مسار خطوة بخطوة وحشد الدعم الدولي العربي للمبادرة لم يقدم النظام على أي خطوة تجاه الملفات العالقة مثل ملف المخدرات واللاجئين وملف المسار المضي بالمسار السياسي إلا بتقديم حوافز سلفاً للنظام على شكل إعادة للإعمار أو رفع العقوبات أو تقديم ودائع مالية مجزية وتعويض عن الدمار الذي تسببت به الحرب والتي اشتركت الدول العربية والخليجية فيها بدعم المعارضة ضد النظام ويبدو أن إصدار العفو هو خطوة تجاه تسهيل عملية العودة الطوعية للاجئين السوريين حيث يوجد نسبة كبيرة من اللاجئين ترفض العودة لأنها مطلوبة للخدة الإلزامية وبذلك يعتبر النظام قد قدم تسهيلات قانونية للدول المطالبة بعودة اللاجئين.

النتائج

لقد فشل جيش النظام في عام 2011 في مواجهة الثورة السورية رغم كل ترسانة السلاح التي يتمتع بعا ورغم بناء الجيش على أسس طائفية وعقيدة سياسية بعثية تؤمن بأن الحزب هو قائد الدولة والمجتمع، وتم نشر هذا الجيش على المحافظات بطريقة أمنية متأهبة لمواجهة الشعب في حال تحرك ضد السلطة أكثر من مواجهة  الأعداء الخارجيين هذا الفشل جعل النظام  مضطراً  للاستعانة بإيران  وميليشياتها الطائفية وروسيا للحفاظ على بقائه وهو ما استدعى من النظام إعادة النظر في المؤسسة العسكرية ومعالجة عوامل القصور في أداء جيشه “العقائدي الطائفي” التي ظهرت خلال الثورة  ومن الواضح أن النظام يهدف من مجموعات الإجراءات التي يتخذها تجاه مؤسسة الجيش من خلال إصدار مراسيم العفو أو التسريح وطلب التطويع برواتب تعتبر مغرية لحاضنته فتح المجال أمام المهجرين لدفع البدلات النقدية عن الخدمة الإلزامية التي يمكن أن تحل أزمة النظام الاقتصادية وتساهم في تأمين الرواتب المرتفعة للمتطوعين في الجيش كما يرغب النظام بإعادة هيكلة جيشه ضمن معايير الاحتراف والمركزية بعد الاختراق الإيراني والروسي للكثير من الفرق العسكرية حيث أصبح الجيش متعدد الولاء، بين من يوالي روسيا ومن يوالي إيران ومن هو متواصل مع إسرائيل كما يهدف النظام إلى التخلص من الضباط المطوبين بقضايا جرائم الحرب إما بالاغتيال أو التسريح أو الإخفاء والاعتقال والدفع بواجهات جديدة لم ترد أسماؤهم على لوائح العقوبات الدولية وقضايا حقوق الإنسان، كما يرغب النظام بتوجيه رسالة للدول المطبعة معه أنه يقوم بتنفيذ الكثير من طلباتهم كما يرغب النظام باستعادة ولاء الجيش لرأس النظام والخلاص من الميليشيات التي باتت تتمتع بنفوذ أكبر من نفوذ الجيش نفسه في بعض المناطق ويبدو أن النظام يعالج مسألة العجز العسكري والأمني في بسط سيطرته على كامل التراب السوري من خلال إعادة ترتيب الجيش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى