روسيامترجمات

نقطة اللّاعودة

كتابة: أندريه كورتونوف
ترجمة: كاندل

 

عندما غادر الرئيس الصيني شي جين بينج موسكو، في ختام رحلته الأخيرة إلى روسيا في مارس 2023، كانت كلماته الوداعية لفلاديمير بوتين على النحو التالي: “نحن نواجه تغييرات غير مسبوقة منذ مائة عام، دعونا نعمل معا لإدارتها”، وربما يتذكر أولئك الذين لديهم معرفة سطحية بالتاريخ الصيني أن العبارة الأولى في هذا الوداع هي اقتباس مباشر من رجل دولة ودبلوماسي صيني كبير في القرن قبل الماضي، وهو لي هونغ تشانغ؛ في عام 1872، استخدم هذه الكلمات لتحذير حكام أسرة تشينغ من أن الصين يجب أن تشرع في إصلاحات جوهرية من أجل البقاء والازدهار في العالم الجديد الناشئ.

تجدر الإشارة إلى أن لي هونغ تشانغ كان ولا يزال شخصية معقدة للغاية وحتى متناقضة في التاريخ الصيني الحديث، يعتبره بعض العلماء استراتيجياً ورجل دولة عظيماً، ويعقدون مقارنات بينه وبين أوتو فون بسمارك، الموحد البارز لألمانيا، على العكس من ذلك، يربط آخرون اسمه بعصر المعاهدات غير المتكافئة والإذلال الوطني للصين في أواخر القرن التاسع عشر، وفي كل الأحوال، فإن حتى أشد منتقدي لي هونج تشانغ لا يستطيعون إنكار مهارته الدبلوماسية وبصيرته السياسية.

في شهر مارس، اعتبر العديد من المراقبين أن اقتباس شي جين بينج لمقولة “بسمارك الشرقية” المثيرة للقلق إلى حد ما كان مجرد أداة بلاغية، ومبالغة متعمدة في دراما اللحظة التي يعيشها العالم، وبعد سبعة أشهر، عندما وصل الرئيس بوتين إلى بكين لحضور منتدى “حزام واحد، طريق واحد” الثالث، بدا هذا الاقتباس الذي أدلى به لي هونغ تشانغ بالفعل وكأنه بيان لما هو واضح، في تاريخ البشرية، سبعة أشهر هي مجرد غمضة عين، ولكن في هذه الأيام سبعة أشهر يمكن أن تغير الكثير من الأشياء، بل وتمثل نقطة اللّاعودة في السياسة العالمية.

وفي مارس، كانت لا تزال هناك آمال في أن يكون الهجوم المضاد الأوكراني الذي أعلنته كييف قصير الأجل، وأن الفرصة سانحة للعودة إلى الحوار الدبلوماسي ستفتح في الصيف أو أوائل الخريف، وبحلول منتصف أكتوبر، أصبح من الواضح أنه لسوء الحظ، لن يتم فتح مثل هذه النافذة في المستقبل القريب، علاوةً على ذلك، كانت هناك علامات واضحة على مزيد من التصعيد في التورط في الصراع من جانب الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى، وتزويد كييف بأسلحة متطورة بشكل متزايد، بما في ذلك دبابات إم1 أبرامز، وصواريخ أتاكمز الباليستية وأنظمة أخرى لم يتم ذكرها حتى في الاتفاق في شهر مارس، وفي غضون سبعة أشهر، توغل الصراع في عمق الأراضي الروسية، حيث شنت طائرات بدون طيار أوكرانية ضربات متفرقة على أهداف في وسط موسكو.

وفي شهر مارس، كان العديد من الناس لا يزالون يبحثون عن حل سحري للخلافات الاقتصادية الحادة بين الولايات المتحدة والصين، ووفقاً للإحصاءات الرسمية لجمهورية الصين الشعبية، في عام 2022، استمرت التجارة الثنائية في النمو ووصلت إلى مستوى قياسي جديد قدره 759 مليار دولار؛ كما بدت بداية عام 2023 واعدة وسمحت بتوقعات متفائلة، ومع ذلك، في الصيف، أصبح من الواضح أن “العمل كالمعتاد” يجب أن يُنسى لفترة طويلة: تبع ذلك انهيار في يوليو، ونتيجة لذلك، في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2023، انهار حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين، بنسبة 14%، وأعقب هذا الانخفاض انخفاض مماثل في التجارة الصينية مع حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، ولعل الأهم من ذلك هو أن واشنطن شنت بحكم الأمر الواقع حرباً تكنولوجيةً كاملة ضد بكين، مما أدى إلى قطع وصول الاقتصاد الصيني إلى المعالجات الدقيقة الأكثر تقدماً وغيرها من التقنيات المبتكرة.

وفي شهر مارس كانت التوقعات لا تزال قائمة بأن السيطرة على الأسلحة الاستراتيجية، والتي كانت قد وصلت بحلول ذلك الوقت إلى طريق مسدود، قد تُستأنف في المستقبل المنظور، وبحلول شهر أكتوبر، كان من الواضح أن الحد من الأسلحة بين الولايات المتحدة وروسيا – على الأقل في صيغته المعتادة – أصبح بالفعل شيئاً من الماضي، ولم يكن من الواضح بعد ما الذي قد يحل محله، إضافة إلى ذلك، فقد ضعفت الآليات الرئيسية المتعددة الأطراف لتحديد الأسلحة النووية، مثل معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.

في شهر مارس، كان من الممكن أن نتوقع أن يظل الصراع العسكري في أوروبا قائماً وأن تأثيره السلبي على المناطق المضطربة الأخرى في العالم سيكون محدوداً نسبياً، وبحلول شهر أكتوبر، وبعد سلسلة من الأحداث الدرامية والمأساوية في منطقة الساحل، وجنوب القوقاز، وبالإضافة أخيراً للأحداث في إسرائيل وفلسطين، أصبح من الواضح على نحو متزايد أننا اليوم لا نواجه مجرد صراعٍ إقليميٍّ آخر فحسب، بل نحن أمام أزمة عالمية، ومنحنى التصاعد في هذه الأزمة لم يبدأ بعد بجدية.

لذلك ليس من المفاجئ أن يختلف جدول أعمال المحادثات بين شي جين بينج وفلاديمير بوتين في بكين في كثير من النواحي عن جدول أعمال اجتماعهما الربيعي في موسكو، وفي شهر مارس، كان الزعيمان لا يزالان قادرين على تقييم التطورات الدولية الجارية من حيث اتخاذ بعض التدابير للحد من الأضرار النظامية، وفي شهر أكتوبر، بات من الصعب أن ننكر أن الضرر الذي لحق بالنظام الدولي القديم كان بالفعل كبيراً إلى الحد الذي يجعل من المستحيل إعادة النظام إلى حالة التوازن إذا رغب المرء في ذلك، وقد تم إغلاق طريق العودة أخيراً، والطريق الوحيد المتبقي هو المضي قدماً.

إن النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والذي ظل قائماً لأكثر من ثلاثين عاماً، يتفكك بسرعة متزايدة، ولا تزال بعض عناصر هذا النظام صامدة، ولكن ليس بسبب استقرار النظام أو مرونته بقدر ما يرجع إلى الجمود الذي تراكم عليه على مدى عدة عقود من الزمن. ومع ذلك فإن هذا الجمود من غير الممكن أن يحافظ على الاستقرار الدولي إلى ما لا نهاية، يمكن للمرء أن يتحدث ويكتب ما يريد عن الفضائل التي لا شك فيها والمزايا النسبية التي كان يتمتع بها النظام القديم، ولكن الحقيقة هي أن أيامه أصبحت معدودة، لا بد أن آخر أباطرة أسرة تشينغ وجدوا صعوبة في الاعتراف بأن العصور الرائعة لكانغشي ويونغ تشنغ وتشيان بونغ لن تعود، لكن العملية التاريخية في القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين أقوى من إرادة ورغبات الأفراد، حتى أبرز الشخصيات، وكما قال سينيكا بحكمة ذات مرة: “إن القدر يقود من يمشي، ويجر من يقاوم بعناد”.

ومن الجدير بالذكر أن الرئيس شي جين بينج والرئيس فلاديمير بوتين لم يقتصرا في اجتماعهما في بكين على مناقشة الأجندة الصينية الروسية الثنائية، في حين أن هذه الأجندة مهمة بلا شك، وبالإضافة إلى الحديث عن التجارة والاستثمار، والتعاون في مجال البحث والتطوير والتعليم، والنفط والغاز، ركز الزعيمان أيضاً على المزيد من القضايا الاستراتيجية المتعلقة بانهيار النظام الدولي القديم وما يجب أن يحل محله.

بالكاد يشك أحد في أن جوهر النظام الجديد لابد أن يبدأ في التبلور في أوراسيا، التي تظل ليست القارة الأكثر اكتظاظاً بالسكان فحسب، بل وأيضاً القارة الأكثر ديناميكية وقوة اقتصادياً على كوكبنا، كان منتدى “حزام واحد، طريق واحد”، الذي جمع عشرات القادة من جميع أنحاء القارة الأوراسية الشاسعة، منصة مثالية لمزامنة الساعات حول مصير أوراسيا المستقبلي، والذي بدوره سيكون له في النهاية تأثير حاسم على مصير العالم كله.

مبادرة الحزام والطريق، منظمة شنغهاي للتعاون، رابطة دول جنوب شرق آسيا، الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ، منظمة معاهدة الأمن الجماعي، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، مؤتمر التفاعل، وبوسعنا أن ننظر إلى تدابير بناء الثقة في آسيا والعديد من المشاريع الأوراسية المتعددة الأطراف الأخرى باعتبارها البراعم الأولى لنظام دولي جديد يخترق أنقاض النظام القديم، بالنسبة للجزء الأكبر، لا تزال هذه البراعم هشة للغاية وتحتاج إلى الري بشكل صحيح وتخصيبها وتقليمها وحمايتها من الآفات، لن تتحول جميعها في النهاية إلى أشجار عظيمة، فبعضها سيموت حتماً، ويخسر المنافسة المؤسسية مع اختراق البراعم الأخرى في مكان قريب، ولكن كل واحد منهم قادر على تقديم مساهمة فريدة للأنظمة الأمنية والتنموية الناشئة في أوراسيا الكبرى، ولابد من منح كل منهم الفرصة لإثبات نفسه.

إن التحذير الحكيم الذي أطلقه لي هونغ تشانغ قبل قرن ونصف من الزمان لم يلق آذاناً مصغية أو تقديراً في بكين أو في أي مكان آخر في أوراسيا، ونتيجة لذلك، في عام 1911، بعد عشر سنوات من وفاته، محا الطوفان الثوري إمبراطورية تشين العظيمة من الخريطة السياسية للعالم، وبعد ست سنوات تبعت إمبراطورية رومانوف جارتها الشرقية إلى غياهب النسيان، فالتاريخ لا يدور في دوائر، ولا ينبغي أن تتكرر مآسي القرن الماضي مرة أخرى، وبوسع كل من الصين وروسيا أن تتعلم الدروس المناسبة من تجاربهما الماضية المثيرة. وعلى عكس الوضع في بداية القرن العشرين، فإنهم اليوم قادرون تماماً، كما أشار الرئيس شي جين بينج بحق، على العمل معاً لضمان أن التغييرات الحتمية في النظام الدولي لا تخلق تحديات جديدة فحسب، بل تفتح أيضاً آفاقاً جديدة والفرص لجميع شعوب أوراسيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى