مقالات الرأي

لعنة الجغرافيا: تشابك المصالح وصراعات السلطة والتدخلات الخارجية

عبد الرحمن جليلاتي – موقع كاندل للدراسات

المقدمة: الجغرافيا قدر سورية، بموقعها الاستراتيجي في قلب الشرق الأوسط، كانت دائمًا نقطة التقاء للحضارات والثقافات، ولكنها أيضًا كانت ساحة للصراعات والتدخلات الخارجية. هذه الجغرافيا، التي منحتها ثراءً تاريخيًا وثقافيًا، تحولت إلى “لعنة” جعلتها هدفًا للتنافس الإقليمي والدولي. بعد الاستقلال، بدأت سورية رحلتها مع الحكم المستقل، ولكن سرعان ما تحولت إلى سلسلة من الانقلابات والتدخلات التي شكلت مصيرها.

الفصل الأول: الاستقلال والحلم الديمقراطي*
بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946، بدأت سورية مسيرتها كدولة مستقلة تحت قيادة الرئيس شكري القوتلي، الذي كان يمثل التيار الوطني الداعي إلى الوحدة العربية والاستقلال الاقتصادي. لكن هذا الحلم الديمقراطي لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما دخلت سورية في دوامة من الصراعات الداخلية والخارجية. أهم تلك الصراعات هي المرتبطة بخطوط النفط وتضارب مصالح الدول الكبرى في المنطقة. وهنا لا بد لنا من ذكر الحدث الأبرز الذي دفع حتى دول إقليمية للتآمر على الحكم في سورية وهو توقيع اتفاقية مد خط كركوك بانياس وتردد القوتلي بتوقيع اتفاقية التابلاين مع شركة أرامكو السعودية.

انقلاب حسني الزعيم والتآمر الخارجي
في 30 مارس 1949، قام العقيد حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في تاريخ سورية الحديث، معلنًا نهاية الحكم المدني وبداية عصر الانقلابات العسكرية. الزعيم، الذي اتُهم بالعمل لصالح الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، أطاح بالرئيس القوتلي، وقام بتغييرات جذرية في السياسة الخارجية لسورية. لكن أهم ما قام به هو تجميد العمل بخط كركوك بانياس وتوقيع اتفاقية التابلاين مع أرامكو.
اعترافات كوبلاند: يد CIA الخفية
في كتابه “لعبة الأمم”، كشف عميل الـ CIA السابق مايلز كوبلاند عن الدور الأمريكي في الانقلابات العسكرية في سورية خلال تلك الفترة. وفقًا لكوبلاند، كانت الولايات المتحدة ترى في سورية نقطة استراتيجية للسيطرة على الشرق الأوسط، خاصة في ظل الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
كوبلاند ذكر أن انقلاب حسني الزعيم تم بالتنسيق مع الولايات المتحدة، التي كانت تسعى إلى إضعاف النفوذ البريطاني في المنطقة وتعزيز مصالحها الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بخطوط أنابيب النفط.
لكن حكم الزعيم لم يدم طويلاً، إذ تمت الإطاحة به بعد بضعة أشهر من قبل سامي الحناوي، الذي اتُهم بدوره بالعمل لصالح بريطانيا. هذه الأحداث كشفت كيف أصبحت سورية ساحة للتنافس بين القوى الكبرى، حيث كانت كل دولة تسعى إلى تعزيز مصالحها عبر دعم شخصيات عسكرية وسياسية.

صراع خطوط النفط والسياسة
كانت قضية خطوط أنابيب النفط واحدة من أبرز مظاهر التنافس الدولي على سورية. الرئيس القوتلي دعم مشروع خط كركوك-بانياس، الذي كان يهدف إلى نقل النفط العراقي عبر الأراضي السورية إلى البحر المتوسط. وذلك من شأنه توفير تكاليف شحن باهظة تدفعها أرامكو لنقل النفط من الخليج العربي وصولا إلى المتوسط بالإضافة إلى أجور قناة السويس مما يفقدها القيمة التنافسية مع شركة بريتش بتروليوم البريطانية راعية خط كركوك بانياس.
تم التوقيع على الاتفاقية بين سورية والعراق في 17 مارس 1949، أي قبل أسابيع قليلة من انقلاب حسني الزعيم. هذا المشروع كان يهدف إلى تعزيز الاستقلال الاقتصادي لسورية وتقليل الاعتماد على النفوذ الغربي.
ابتكرت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مشروع “التابلاين”، الذي كان يهدف إلى نقل النفط السعودي عبر الأردن وسورية وصولا إلى لبنان، وقدمت المشروع للقوتلي في دمشق للتوقيع عليه، لكن مماطلته فهمت من قبل الدولتان على أنها رفض للتعاون بهذا الملف وبدأتا حقبة التآمر على الدولة الوليدة.
بعد انقلاب الزعيم، تم التوقيع على اتفاقية التابلاين، مما أدى إلى إيقاف مشروع خط كركوك-بانياس. هذه الخطوة كانت مثالًا صارخًا على كيف يمكن للتدخلات الخارجية أن تُعيد تشكيل السياسة الاقتصادية لسورية وفقًا لمصالح القوى الكبرى.

انقلاب سامي الحناوي
في كتابه فجر الاستقلال لسهيل العشي مدير مكتب الرئيس شكري القوتلي والضابط الذي عاصر تلك المرحلة وعاشها، يذكر بوضوح أن أسعد طلس عديل (زوج اخت زوجة الحناوي) سامي الحناوي كان متعاونا مع البريطانيين، وأن الأمر كان معروفا بل هو السبب بتسريح الزعيم له من عمله في الخارجية. وذكر أيضا أنه هو من حرضه على الانقلاب وكان صلة الوصل بين الحناوي وبريطانيا. وهذا يفسر كيف أن الحناوي أوقف اتفاقية التابلاين ثم أعاد العمل بإتفاقية كركوك بانياس. ليظهر جليا للجميع حجم تشابك مصالح القوى العظمى على الجغرافية السورية.

عودة التدخلات وانقلاب أديب الشيشكلي
بعد الإطاحة بالحناوي، عادت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى دعم شخصية عسكرية جديدة، هي أديب الشيشكلي، الذي قام بانقلاب عام 1951. الشيشكلي وقع على اتفاقية التابلاين، مما أدى إلى تعزيز النفوذ الأمريكي والسعودي في المنطقة، وأوقف بشكل نهائي مشروع خط كركوك-بانياس.

هذه الخطوة كانت بمثابة ضربة قاسمة لاستقلال سورية الاقتصادي، حيث أصبحت البلاد أكثر اعتمادًا على النفوذ الخارجي. الشيشكلي، الذي حكم سورية بقبضة حديدية، واجه معارضة شعبية واسعة، مما أدى إلى سقوطه في نهاية المطاف عام 1954.

*الخاتمة: لعنة الجغرافيا واستمرار الصراع*

سورية، بموقعها الذي يربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، كانت ولا تزال شاهدة على تقاطُع مصالح القوى الكبرى وتداخُلها. جغرافيتها التي منحتها مكانةً استراتيجيةً جعلتها مهدًا للحضارات وملتقى الثقافات، تحولت مع الزمن إلى عبءٍ ثقيل، وكأنما قدرها أن تكون ساحةً للتنافس والصراع. تلك الجغرافيا التي كانت يومًا نعمةً أورثتها ثراءً تاريخيًا وثقافيًا، أصبحت لعنةً تهدد وجودها وتُذيب أحلامها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى