كيف تعكس قضية جفري إبستين أزمة الحداثة الأخلاقية
الكاتب: عباس شريفة
إن بعض الأحداث الصاخبة في حياتنا اليومية ليست مجرد مادة إعلامية عابرة لحصد التفاعل الآني وإنما هي مؤشر على وجود تحولات عميقة في أس الأخلاق ومعايير التحضر ويمكن أن تكون مناسبة لمحاكمة الفلسفة التربوية والمنظومة الاجتماعية والسياسية التي تتحكم بمصير الإنسان الأخلاقي.
ومن ذلك قضية جيفري إبستين، الثري اليهودي الذي كان يعيش حياة مزدوجة تمتزج فيها الثروة بالإجرام الجنسي تطل علينا كمرآة تكشف تبعات الحرية الجنسية المفرطة في الحداثة الغربية.
في عالم يزداد تحولًا نحو الحرية الجنسية إلى حد الإباحية، يطرح الفلاسفة تساؤلات مهمة حول كيفية تأثير هذه الحرية على الأخلاق والشغف البشري. يقول جان-بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي، “الإنسان محكوم عليه أن يكون حراً”، ولكن كيف يمكننا توجيه هذه الحرية لتجنب الانجراف إلى أفعال لا أخلاقية؟
وهنا تسلط قضية إبستين الضوء على فشل التوجيه الأخلاقي للحرية الجنسية، في محاولة للهروب من روتين الجنس الكلاسيكي الذي فقد شغفه مع سحر الصورة الكاشفة عن كم خادع من المتع ، انخرط إبستين في ممارسات إجرامية في اغتصاب الأطفال والاستعباد الجنسي العنيف .
هنا يأخذنا الفيلسوف العبثي ألبرت كامو إلى تفكيك الإنسان الذي “يبحث عن الشغف وسط اللامبالاة حيث يقول ” إن الحرية الجنسية، إذا لم تتوافق مع قيم أخلاقية قوية، قد تؤدي إلى تشويه الشغف والانغماس في تجارب مظلمة.
أثبتت قضية جفري إبستن أن الحرية الجنسية المفتوحة بين الجنسين خارج إطار الزواج ومناظر العري في سوق اللذة المتوحش والإباحية الرخيصة والتبذل المهين لا تهذب الغريزة الجنسية وتجعلها أمراً طبيعياً ولا تهدأ من سعارها المتوهج و لا تفكك عقدها المكبوتة عند الشباب كما يدعي المتخصصون بالتربية الجنسية لدى الغرب في وصفاتهم العلاجية .
لكنها تتسبب بزيادة الجوع الجنسي وعدم الإشباع بالعلاقة الطبيعية المفتوحة وتدفع بالكثيرين إلى البحث عن ممارسات شاذة من اغتصاب الأطفال لاستعادة الشغف المفقود بسبب الوصول إلى حد التخمة والشبع الذي تفقد معه الشهوة والرغبة بسبب وفرة الجنس الخالي من المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية.
وهنا يصل الإنسان إلى ما هو أخطر من الكآبة إنه فقد الشغف أي لم تعد المتع المألوفة تحرك شغفه لحب الحياة فيذهب الإنسان إلى اختراع شهوات مجنونة وغير مألوفة لا تصل إلى الممارسات الشاذة وإنما إلى ارتكاب الجرائم على شكل الجنس المتوحشة مع الأطفال وحتى الموتى لاستعادة الشغف المفقود وهو ما يذكرنا بقصص بعض أباطرة الرومان الذين كانوا يتقيؤون بعد تناول الطعام والشبع من أجل المعاودة إلى الأكل والتلذذ بالطعام مجدداً.
لكن مع الوقت تتحول الممارسات الشاذة والمتوحشة في إرضاء الغريزة إلى ممارسة مملة هي الأخرى وفاقدة للشغف ومع عجز مكنات الإنتاج في سوق اللذة عن ابتداع لذة جديدة تقدح الشرارة في الجثة الباردة يصبح الانتحار هو الخيار الأنسب لدى البعض للخلاص من ثقل الحياة وظلمة اللامعنى .
وفي سياق الأزمة الأخلاقية الحالية، يحذر الفيلسوف الألماني فيدريك نيتشه أن “اللامسؤولية في استخدام الحرية قد تؤدي إلى فقدان الشغف”. وهو ما يعني أن البحث المستمر عن التجارب المحرمة يؤدي إلى هذا الفقدان، حيث يصبح الشخص مستعدًا للجريمة من أجل استعادة حماسه الضائع.
إن هذه القضية الحالية تجعل نقاشنا يتسع ليشمل التأمل في دور العائلة والمجتمع في تربية الأجيال، يؤكد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي وقع بنفس الممارسة الجنسية الإجرامية من اغتصاب الأطفال وإقامة حفلات الجنس الجماعي لكنه عاد ليؤكد على أهمية السلطة التنظيمية للمجتمع في توجيه السلوك الفردي، وأهمية العائلة كوحدة أساسية في المجتمع تلعب دورًا حيويًا في نقل القيم وتوجيه الشغف نحو مسارات صحيحة.
كما إن التحول نحو فهم أعمق للحرية الجنسية يستدعي أيضًا النظر في تأثيرات صناعة الترفيه وسوق اللذة وانفلات سائل الإعلام التي تلعب دوراً تحريضياً على ارتكاب الجريمة في سعيها لتخدير الشعور وتشويه اللاشعور، وهنا يشير الفيلسوف جان بودريارد إلى أن وسائل الإعلام تلعب دورًا هامًا في توجيه الشغف وتشكيل تصورات المجتمع حول الجنس، وهو ما يتطلب التفكير بشكل أعمق في كيفية تحديد القيم وتوجيه الشغف في ظل وسائل الإعلام الحديثة والاقتصاد في استهلاكه على طاولة قمار الرأسمالية المتوحشة.
يبدو أن المنهج التربوي في الإسلام كان الأصوب في إدارة الغرائز والشهوات عند الإنسان حين جعل اللذة عبارة عن لحظة ظفر بعد حرمان ثم حرمان بعد ظفر لأن الحرمان المتواصل حارق للنفس بعقدة الكبت والعطاء المتواصل قاتل للشغف وهكذا تستمر الحياة مدفوعة بالشغف المتجدد دونما توقف .
وهو ما يعبر عنه بيرتراند راسل: “الشغف هو العاطفة الحية للروح؛ إنها الطاقة التي تجعل الحياة مثيرة وجديرة بالعيش وهو ما يظهر حكمة الإسلام في معالجة الغريزة الجنسية للمحافظة على ديمومة اللذة والسعادة ففي المنظومة الأخلاقية الإسلامية لا مكان للرهبانية الذي يتولد منه عقدة الكبت والحرمان وهي ما تدفع المحرومين إلى ممارسة الزنا والشذوذ كما يحصل اليوم من جرائم اغتصاب وتحرش في الكنائس التي يفترض أنها مكان للصفاء والعبادة إلى درجة شاع فيها اعتداء الرهبان على الراهبات ومنعهن من الإجهاض.
كما يرفض الإسلام إطلاق العنان للغريزة بلا محرم ولا حدود فتنتهي إلى البطر والتخمة وفقد الشهية والشغف والبحث عن بدائل شاذة لاستعادة الشغف المفقود قد تصل لحد الإجرام.
لكن الإسلام يضع الإنسان في لحظة حرمان وعفة فتحرك فيه الشغف لنيل ما يشتهي بالحلال ثم يضعه في لحظة وصل للذة فتدفع عنه عقدة الكبت وهو في الحالتين يحمي الإنسان من خطر الإفراط والبطر وخطر التفريط والحرمان اللذين يؤديان بالنتيجة إلى الشذوذ والإجرام.
وعليه فإن قيمة العفة التي أوصى بها الإسلام للشباب عند عدم القدرة على الزواج تزيد من لذة المتعفف عند والزواج
وبهذا يظهر أن الأزمة الأخلاقية في الحداثة الغربية تتطلب نقاشًا متعدد الأوجه يشمل التربية، وسائل الإعلام، والقيم الدينية، يتعين علينا أن نسأل أنفسنا كيف يمكننا توجيه حريتنا الجنسية بشكل يحقق التوازن بين الشغف البشري والقيم الأخلاقية، وكيف يمكن للمجتمعات الحديثة أن تتعامل بفعالية مع التحديات الأخلاقية المعاصرة بحيث لا تتحول اللذة إلى أحد منتجات سوق اللذة لقتل شغف الإنسان ويتحول معها الإنسان إلى مستهلك نهم يفقد معها الطعم.
في النهاية، تكشف قضية جيفري إبستين عن أهمية فهم مفهوم الحرية الجنسية في إطار أخلاقي اجتماعي وهو يستدعي إعادة النظر في توجيه الشغف البشري وتعزيز القيم الأخلاقية كوسيلة للتوقف عن المنحدر الخطر الذي يحول الغريزة من دافع للعمارة والاجتماع الإنساني إلى دافع للتوحش والإجرام .