اقتصاد

شرق المتوسط: صراع الطاقة والغاز في بحر من التوترات الجيوسياسية

هيئة التحرير – كاندل للدراسات

شرق البحر المتوسط، منطقة غنية باحتياطيات الغاز الطبيعي، أصبحت ساحة لصراعات جيوسياسية وقانونية معقدة. بينما تتنافس الدول المجاورة والقوى العالمية للسيطرة على هذه الثروة، تبرز تحديات تتعلق بالحدود البحرية وحقوق استخراج الغاز، مما يجعل المنطقة واحدة من أكثر المناطق إثارة للجدل في العالم.

الخلافات البحرية: حدود متنازع عليها

تتصاعد التوترات بين تركيا واليونان حول الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ)، خاصة في بحر إيجه وحول جزر مثل كاستيلوريزو. تركيا ترفض الاعتراف بالمطالبات اليونانية التي تستند إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتؤكد على أهمية الجرف القاري. وفي قبرص، الجزيرة المقسمة بين الشمال التركي والجنوب اليوناني، تتصاعد النزاعات حول حقوق التنقيب عن الغاز. بينما تدعم تركيا مطالب قبرص الشمالية، تعترف دول الاتحاد الأوروبي بحكومة قبرص الجنوبية. إضافة إلى ذلك، تسعى دول مثل إسرائيل ومصر ولبنان لتأكيد حقوقها في المنطقة، مما يزيد من تعقيد المشهد.

ثروة طاقة هائلة

تحتوي منطقة شرق المتوسط على احتياطيات غاز طبيعي تُقدّر بحوالي 2.5 تريليون متر مكعب، وهو ما يعادل 17 عامًا من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز بمستويات عام 2022. وتُقدر القيمة السوقية لهذه الاحتياطيات بأكثر من 700 مليار دولار أمريكي بأسعار الغاز الطبيعي المسال الحالية. بعد الحرب في أوكرانيا وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، أصبحت منطقة شرق المتوسط مصدرًا محتملًا للطاقة لأوروبا، مما يزيد من أهميتها الاستراتيجية.

مشاريع خطوط الأنابيب: أداة للنفوذ

تتنافس الدول في المنطقة على إنشاء مشاريع خطوط أنابيب لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي. من أبرز هذه المشاريع:

خط أنابيب شرق المتوسط: يهدف إلى ربط إسرائيل وقبرص واليونان بأوروبا، مع قدرة نقل تصل إلى 10 مليارات متر مكعب سنويًا. ومع ذلك، يواجه المشروع معارضة تركية ومخاطر اقتصادية.

خط أنابيب ترك ستريم: ينقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنطقة البلقان، ويعزز دور تركيا كمركز إقليمي للطاقة.

وحدات الغاز الطبيعي المسال (FSRU): تستثمر اليونان وتركيا في محطات جديدة لاستيراد وتصدير الغاز الطبيعي المسال، مما يعكس سعيهما لتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية.

 

صراعات جيوسياسية: الغاز سلاح

تتصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة، حيث تُستخدم موارد الغاز كأداة للضغط السياسي. تركيا واليونان تتبادلان الاتهامات حول انتهاكات المناطق الاقتصادية الخالصة، بينما تعمل سفن الحفر التركية في مناطق متنازع عليها قبالة سواحل قبرص. فرنسا، من جانبها، تدعم اليونان وقبرص عسكريًا وسياسيًا، في حين تسعى إسرائيل ومصر لتصدير الغاز إلى أوروبا، مما يعزز دورهما الإقليمي.


الجانب القانوني: اتفاقيات متناقضة

تعتمد اليونان وقبرص على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لتأكيد حقوقهما البحرية، بينما ترفض تركيا هذه الاتفاقية وتؤكد على أهمية الجرف القاري. اتفاق تركيا وليبيا الموقع في عام 2019 أعاد رسم الحدود البحرية، مما أثار غضب اليونان وقبرص وزاد من تعقيد المشهد القانوني.

جذور تاريخية: إرث من الصراعات

تعود جذور التوترات الحالية إلى أحداث تاريخية مثل معاهدة لوزان (1923)، التي حددت الحدود بين تركيا واليونان لكنها تركت قضايا بحرية عالقة. غزو تركيا لقبرص عام 1974 أدى إلى تقسيم الجزيرة ولا يزال يؤثر على العلاقات الإقليمية. في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أعادت اكتشافات الغاز البحرية تشكيل ديناميكيات القوة في المنطقة.

تأثيرات على الأسواق العالمية

تسعى تركيا لتحقيق استقلالها في مجال الطاقة عبر مشاريع مثل حقل غاز ساكاريا في البحر الأسود، الذي يهدف إلى إنتاج 10 مليارات متر مكعب سنويًا بحلول عام 2028. من جهتها، تستثمر اليونان 2.5 مليار يورو في استيراد الغاز الطبيعي المسال لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. ومع ذلك، تُعقّد الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي مشاريع الوقود الأحفوري الجديدة، بينما يكتسب الهيدروجين الأخضر زخمًا كبديل مستقبلي.

المستقبل: طريق محفوف بالتحديات

من غير المرجح أن يتم التوصل إلى اتفاق شامل حول المناطق الاقتصادية الخالصة في المدى القريب. ومع ذلك، قد تكون المشاريع الطاقية المشتركة ممكنة إذا سمحت الظروف الجيوسياسية بذلك. التقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي قد يكون مفتاحًا لتخفيف التوترات، لكنه يبقى خيارًا غير متوقع في ظل الخلافات القائمة.

الخلاصة

شرق المتوسط ليس مجرد منطقة حدودية متنازع عليها، بل هو ساحة معركة للسيطرة على تدفقات الطاقة في عالم ما بعد الاعتماد على الغاز الروسي. بينما تتنافس الدول على هذه الثروة، تبقى التوترات الجيوسياسية والقانونية عائقًا أمام تحقيق الاستقرار. ومع ذلك، فإن الثروة الهائلة من الغاز تجعل المنطقة محورية لمستقبل الطاقة في أوروبا والعالم، مما يفرض على جميع الأطراف البحث عن حلول دبلوماسية لتجنب تصعيد قد يكون مكلفًا للجميع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى