أبحاث

المعضلة الاقتصادية في سوريا.. خطوات نحو النهوض والإصلاح

  • مقدمة

يمثل الوضع الاقتصادي في سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد الشهر الجاري معضلة متعددة الأبعاد، حيث تجتمع العوامل النقدية والمالية والإنتاجية لتشكل تحدياً عميقاً أمام تحقيق النهوض الاقتصادي. الأزمات التي تعصف بالاقتصاد السوري ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمي لسنوات من الصراع والفساد وسوء إدارة الموارد، إلى جانب العقوبات الاقتصادية الدولية. في هذا المقال، سنتناول الوضع النقدي والمالي، ونبحث في الأسباب الكامنة وراء الأزمة من خلال منهج العرض والطلب، ونختم بتقديم حلول تستند إلى رؤية تنموية تهدف إلى تحقيق التوازن الاقتصادي والاستدامة.

  • الوضع النقدي: تحليل ودلالات

على مدى عقود حكم الأسد الأب والابن، تحول مصرف سوريا المركزي إلى أداة تخدم مصالح عائلة الأسد، بدلاً من حماية الاقتصاد الوطني وإدارة السياسة النقدية بشكل سيادي. حيث كشفت تقارير عن تهريب نظام الأسد مئات الملايين من الدولارات إلى روسيا عبر رحلات جوية سرية، في ظل النقص الحاد في العملات الأجنبية داخل البلاد. عمليات التهريب التي شملت أكثر من 250 مليون دولار بين 2018 و2019، أكدت أن البنك المركزي لم يكن مؤسسة وطنية تدير السياسات النقدية لصالح الشعب، بل كان “بنكاً خاصاً” يستخدم لضمان مصالح النظام السوري المخلوع ودائرته المقربة، على حساب الاقتصاد المتهالك الذي ترك أكثر من 27% من السكان تحت خط الفقر المدقع، ويعاني 69% من السكان، أي نحو 14.5 مليون سوري، من الفقر، وفقًا لتقرير رفاه الأسر السورية الصادر عن البنك الدولي في مايو 2024.

ملامح الوضع النقدي

  • تراجع الاحتياطات النقدية والذهب

يمتلك مصرف سوريا المركزي نحو 26 طناً من الذهب، وهو الرقم الذي لم يتغير منذ عام 2011، أما الاحتياطيات النقدية، فقد شهدت هبوطاً حاداً، حيث انخفضت من 14 مليار دولار في عام 2011، وفقاً لتصريحات مصرف سوريا المركزي لصندوق النقد الدولي، إلى حوالي 200 مليون دولار فقط نقداً حالياً، مع بعض التقديرات التي تشير إلى امتلاك “مئات الملايين” من الدولارات.

هذا التدهور الكبير يعكس غياب الاستراتيجيات النقدية الفعالة، وتآكل السيادة الاقتصادية لصالح سياسات قصيرة المدى تُدار لخدمة المصالح الخاصة للنظام الحاكم، في ظل انهيار اقتصادي يعاني منه معظم السوريين.

  • التضخم المفرط وانخفاض القوة الشرائية

شهدت سوريا موجات من التضخم المفرط، فمع تصاعد الصراع في سوريا، شهدت البلاد موجات تضخم حادة أثرت بشكل مباشر على معيشة السكان. ارتفعت معدلات التضخم من 11% في 2012 إلى 88% في 2013، مدفوعة بانهيار القطاعات الاقتصادية وتدهور قيمة الليرة. بين 2016 و2019، تذبذبت معدلات التضخم قبل أن تصل إلى 163% في 2020 نتيجة الانهيار الاقتصادي والعقوبات. أحد الأسباب الرئيسية للتضخم كان الاعتماد على طباعة المزيد من النقود كحل مؤقت، دون معالجة جذور المشكلة المتعلقة بالعرض والإنتاج، وهذا الهروب من مواجهة الأزمة أدى إلى استمرار موجات التضخم، حيث سجلت 139% في 2023، مما تسبب في انهيار القدرة الشرائية وزيادة معدلات الفقر.

  • انعدام الثقة بالليرة السورية

التحليل الاقتصادي يشير إلى أن فقدان الثقة بالعملة المحلية دفع الأفراد والشركات إلى الاعتماد على العملات الأجنبية (الدولرة)، مما أدى إلى تآكل الطلب على العملة الوطنية وزيادة الضغط على الاقتصاد الرسمي.

هذه المؤشرات النقدية تعكس ضعف الهيكل النقدي للدولة وعدم كفاية الأدوات المتاحة لتحقيق التوازن النقدي، ما يجعل من الضروري البحث عن سياسات نقدية مبتكرة ومستدامة.

  • الوضع المالي: الفساد وعجز الموازنة

النظام المالي السوري يعاني من اختلالات واضحة تتجلى في عجز الموازنة المتفاقم وغياب الاستثمارات، فضلاً عن الفساد الإداري الذي يستنزف الموارد دون تحقيق عوائد اقتصادية.

ملامح الوضع المالي

  • عجز الموازنة وأسبابه

تعاني سوريا من عجز مالي متفاقم بسبب سياسات اقتصادية متقلبة ركزت على الإنفاق الاستهلاكي على حساب الاستثماري، والدعم العيني ثم النقدي بدلا من تعزيز الإنتاج، حيث انخفض الإنفاق الاستثماري من 44% عام 2010 إلى 15% عام 202، حيث خصص النظام المخلوع معظم الموازنة لنفقات استهلاكية بدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية، مما أدى إلى تآكل الموارد المالية واللجوء إلى التمويل بالعجز، وتشمل أسباب العجز زيادة النفقات غير المنتجة، خاصة في الدفاع والدعم الاجتماعي الوهمي، وضعف الإيرادات الضريبية نتيجة التهرب الضريبي وانتشار الأنشطة غير الرسمية، وغياب الاستثمار الحقيقي وسوء الإدارة، مما فاقم الأزمة الاقتصادية.

  • الفساد الإداري كعامل أساسي

يعاني النظام المالي المترهل في سوريا من فساد مؤسسي واسع النطاق، حتى وصل الأمر لتوجيه موارد التعافي المبكر والمساعدات إلى تحقيق أهداف سياسية تخدم النظام بدلاً من التنمية الحقيقية. الترهل والمحسوبيات شعار عريض في سوريا السابقة، ففي القطاع الصحي مثلاً، أُعلن عن وجود أكثر من 82 ألف موظف، الغالبية منهم بلا أي علاقة بالمجال الصحي، مع آلاف الموظفين الوهميين الذين عُينوا لأغراض غير مهنية. هذا الترهل الإداري والفساد يؤديان إلى استنزاف الموارد المالية وزيادة الأعباء الاقتصادية، مما يعمق الأزمة ويعرقل أي جهود للتعافي.

  • تراجع الاستثمار

غياب بيئة استثمارية مستقرة نتيجة للصراعات والفساد أدّى إلى عزوف المستثمرين عن ضخ الأموال في الاقتصاد السوري، مما زاد من عمق الأزمة المالية، مع توجه حكومة للأسد للهروب من المشكلات باتجاه الاستهلاك على حساب الاستثمار.

  • أسباب المشكلة: فجوة العرض والطلب

الطلب: طبيعي ومعقول

الأزمة الاقتصادية في سوريا ليست نتيجة طلب مفرط أو غير منطقي، بل إن الطلب يعبر عن احتياجات أساسية ومعقولة للسكان تشمل الغذاء، الوقود، والأدوية. ومع ذلك، فإن العرض غير كافٍ لتلبية هذا الطلب، ما أدى إلى فجوة كبيرة في السوق.

العرض: العجز البنيوي

  • تعطل عناصر الإنتاج

الأراضي الزراعية، التي تمثل مورداً حيوياً، تُركت دون استغلال أمثل نتيجة نقص الدعم الفني والمالي للمزارعين وتدمير البنية التحتية الزراعية.

  • الفساد في عوائد الإنتاج

العوائد التي كان يجب أن تستخدم لدعم القطاعات الإنتاجية تم تحويلها إلى ميليشيات وأطراف خارجية، ما حال دون تطوير الإنتاج المحلي، وهذا التسرب في الاقتصاد أدعى إلى أن يكون سببا أساسيا في نقص الإنتاج وارتفاع الأسعار، مما يمكن وصف الحالة الاقتصادية بالركود التضخمي.

  • قيود التجارة الدولية

فرض النظام المخلوع للرسوم على عمليات الاستيراد والتصدير دون فعالية وكفاءة وعدالة وإضافة لإعاقة تلك العمليات ورفضه لمشاريع الترانزيت التكاملية مع المحيط الإقليمي حتى قبل اندلاع الثورة السورية في 2011، واحتكار التعامل بالعملات الأجنبية لغرض الاستيراد والتصدير إلا عن طريق المصرف سوريا المركزي وبأسعار صرف لا تمثل الواقع، خلق تكاليف عالية انعكست على سعر المنتج النهائي وبالتالي عائقا في جانب العرض، ناهيك عن العجز التجاري المتفاقم.

الفجوة بين العرض والطلب

هذا الخلل بين العرض المحدود والطلب المعقول أدى إلى ظهور السوق السوداء كبديل لتلبية الاحتياجات الأساسية، التي تعمل بأسعار مرتفعة وجودة منخفضة، مما زاد من معاناة المواطنين وأدى إلى تعزيز الاقتصاد الموازي الذي يعمل خارج إطار الرقابة الحكومية.

  • الحلول: رؤية علمية وتنموية
  • بناء مسارات التنمية: الطوارئ، التعافي، الإعمار

الاقتصاد السوري بحاجة إلى تنفيذ المسارات الثلاثة للتنمية بشكل متزامن:

الاستجابة الطارئة: تشمل تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والوقود من خلال دعم خارجي نقدي ولوجستي، والتعافي: إعادة تشغيل القطاعات الإنتاجية، مع التركيز على المشاريع قصيرة الأجل لتوفير فرص عمل، وإعادة الإعمار: الاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية لتحقيق التنمية المستدامة.

  • تعزيز القطاع الزراعي

القطاع الزراعي يمثل العمود الفقري للاقتصاد السوري، وهو محور أي خطة تنموية، من خلال إعادة تأهيل الأراضي الزراعية: دعم المزارعين بتوفير البذور والأسمدة بأسعار مدعومة، وتحسين أنظمة الري: الاستثمار في تقنيات الري الحديثة لزيادة الإنتاجية، وتطوير الصناعات الزراعية: تعزيز التصنيع الغذائي لتوفير قيمة مضافة للمنتجات الزراعية.

  • التركيز على المؤشرات الاقتصادية الكلية

المكتب الاحصائي هو مرآة تعكس الجودة التقنية والمنهجية العلمية، وأداة أساسية تُبرز كفاءة سوريا. اليوم، تتسابق الدول لتطوير مؤشرات الإحصاء واعتماد أحدث الأساليب العلمية، مما يجعل مكاتب الإحصاء ركائز أساسية للدول.

يلعب المكتب المركزي للإحصاء دوراً محورياً في تحقيق الشفافية وقياس الأداء الاقتصادي من خلال اعتماد مؤشرات علمية دقيقة: مثل معدلات النمو والبطالة والتضخم والإنتاجية وغيرهم، وإصدار تقارير دورية مع تفسيرات: توفر بيانات تفصيلية لصانعي القرار وتكون أداة رقابية لعمل الحكومة، وتحليل السياسات الاقتصادية: لقياس أثر السياسات وتوجيهها نحو الأهداف الاستراتيجية.

  • الحوكمة ومكافحة الفساد

الفساد يمثل العائق الأكبر أمام تحقيق أي إصلاح اقتصادي، والمكافحة من خلال إنشاء هيئات رقابية مستقلة: لضمان الشفافية في إدارة الموارد، وإصلاح المؤسسات الحكومية: تقليص الوظائف الوهمية وتحسين كفاءة الأداء.

  • الدعم الخارجي

إعادة بناء الاقتصاد السوري تتطلب دعماً دولياً أساسياً يشمل الجوانب المالية والفنية. الدعم المالي يمكن أن يُستخدم لتمويل مشاريع البنية التحتية ودعم القطاعات الإنتاجية. أما الدعم الفني، فيتمثل في نقل التكنولوجيا الحديثة وتقديم الاستشارات لإصلاح النظام المالي والنقدي وتطوير المؤسسات الحكومية، ونقل الخبرات الدولية لتطبيق أفضل الممارسات في التنمية المستدامة.

  • تفعيل دور القطاع الخاص

إن بناء المؤسسات، ودفع عجلة التنمية، وتنفيذ المشاريع، وتطوير البنى التحتية والمرافق، كلها أهداف أساسية تحتاج إلى تمويل واستدامة، ومع محدودية الموارد العامة، يصبح إشراك القطاع الخاص (داخليا وخارجيا) خيار ضروري وليس ترف.

إشراك القطاع الخاص، يساهم في تحسين الجودة: القطاع الخاص يحرص على تنفيذ المشاريع بأعلى معايير الكفاءة، وضغط الوقت: الالتزام بجداول زمنية محددة يسرع من إنجاز المشاريع، وتوفير الموارد: يخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة ويقلل الهدر.

إن إشراك القطاع الخاص في مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل المطارات والمستشفيات، وتقديم حوافز للاستثمار وتسهيلات قانونية لضمان استثمارات طويلة الأجل أساس في عمليات التنمية.

  • رقمنة الاقتصاد

رقمنة العمليات الحكومية لتحسين الشفافية والكفاءة والجودة، ولعل مصطلحي الكفاءة والجودة هما الغائبان الأهم في حكم النظام السابق، بالإضافة لضرورة دعم التجارة الإلكترونية لتوسيع السوق للشركات الصغيرة والمتوسطة.

  • دور البنك المركزي

تعلب البنوك المركزية دورا هاما وسياديا مستقلا نسبيا في تعزيز وتحفيز الاقتصاد، وفي سوريا المستقبل من المهم التركيز على دور مصرف سوريا المركزي من خلال تحديد حجم الكتلة النقدية بمختلف معانيها الضيف والواسع والموسع بالعملة المحلية لضمان فعالية السياسة النقدية وإدارة عرض النقود، وإن استقرار سعر الصرف عند معدلات حقيقية يتطلب دوراً مركزياً للبنك من خلال أدواته النقدية ودعم التجارة الدولية والسياسات المالية الموازية، والتنسيق مع البنوك التجارية أمر ضروري لإدارة الائتمان وتوجيهه نحو الأنشطة الإنتاجية.

إن تفعيل أدوات السياسة النقدية مثل أسعار الخصم، معدلات الاحتياطي الإلزامي، وعمليات السوق المفتوحة يضمن التحكم بالتضخم وضبط عرض النقود، وإن بناء نظام نقدي مستقر ومستقل نسبياً يعد أساساً لتحقيق استقرار نقدي يدعم التنمية المستدامة والثقة الاقتصادية.

  • رسوم الاستيراد

إن إلغاء أو تحسين الرسوم المتعلقة بالاستيراد من دوره أن يقلل التكلفة المحملة على السلع المستوردة وبالتالي تخفيض لسعر البيع، مما يعزز العرض والطلب ويحفز المستوردون على تحسين المنتجات المستوردة مقابل التكلفة التي يوفرها وإيجاد سوق منافسة حرة.

  • فرص العمل والأدمغة المهاجرة

إعادة هيكلة سياسات الموارد البشرية ورفع كفاءتها والاستثمار الأمثل للموارد المتاحة خطوة مهمة في البناء الاقتصادي الجديد، والاستفادة من الأدمغة السورية التي اكتسبت خبرات رافقت مسيرة الهجرة اللجوء عبر سنوات الثورة السورية هي مخزون قيم وهام وضروري لنقل تجاربهم وخبراتهم ومشاريعهم للداخل السوري، وإضافة لمساهمتهم التعليمية والتأهيلية والتدريبية للكوادر المستقبلية.

  • السلوك والتوقعات في الاقتصاد

تشير الدراسات في الاقتصاد السلوكي إلى أن توقعات الأفراد وسلوكهم يلعب دوراً هاما في القرارات الاستهلاكية والاستثمارية، والتفاؤل الجماعي يمكن أن يدفع الاقتصاد نحو النمو عبر زيادة الإنفاق، وتعزيز الثقة في الأسواق، وتحسن سعر صرف العملة وأسعار الأسهم. عليه فإن بناء بيئة إيجابية ودعم ثقة المجتمع السوري في القرارات الاقتصادية يمثل استثماراً نفسياً يعزز الأداء الاقتصادي، حيث إن الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل شعور وثقة وسلوك.

  • الخاتمة

تعكس الأزمة الاقتصادية في سوريا تدهوراً شاملاً في مكونات الناتج المحلي الإجمالي، التي تشمل الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي وصافي التعامل مع العالم الخارجي. ومع ذلك، فإن هذه الأزمة ليست نهاية الطريق، بل تمثل فرصة لإعادة بناء اقتصاد أكثر توازن وعدالة، ويكمن مفتاح التعافي في إعادة هيكلة القطاعات الإنتاجية، وتوجيه الإنفاق الحكومي نحو الاستثمار المستدام، وتعزيز الشفافية للقضاء على الفساد الذي استنزف موارد سوريا لعقود.

المستقبل ليس مستحيلاً إذا تم التركيز على السياسات التي تخلق فرص عمل وتزيد من الإنتاج المحلي وتدعم بيئة استثمارية جاذبة. إن بناء شراكات استراتيجية مع المجتمع الدولي، والاستفادة من التجارب العالمية، يمكن أن يضع سوريا على مسار تنموي مستدام. فالاقتصاد السوري، رغم التحديات، يمتلك إمكانيات كامنة تحتاج فقط إلى إدارة رشيدة وإرادة جماعية لتحقيق مستقبل أفضل يعيد الأمل لشعبه، ويؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى