مجلة الإيكونوميست
ترجمة كاندل
إذا كنت تعتقد أن الشرق الأوسط راكدٌ، عليك أن تعيد التفكير مرة أخرى؛ إذ تُعدُّ اقتصادات الخليج من بين أغنى الاقتصادات وأكثرها حيوية في العالم، مدعومة بسعر خام برنت الذي ارتفع مرة أخرى إلى أكثر من 90 دولارًا للبرميل بداية شهر أيلول/سبتمبر، ويتم إنفاق 3.5 تريليون دولار من ثروة الوقود الأحفوري على كل شيء، بدءًا من نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية والمدن الجديدة البراقة وسط الصحراء، إلى ملء خزائن صناديق الثروة السيادية العملاقة التي تجوب أسواق رأس المال العالمية بحثًا عن الصفقات.
ومع تدفق الأموال النقدية، تُظهر الفوضى علامات الانحسار، وذلك بفضل أكبر موجة من الدبلوماسية منذ عقود، حيث تفاوضت المملكة العربية السعودية وإيران على نوع من الانفراج في التنافس الذي استمر منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وفي سوريا واليمن انخفض عدد قتلى الحرب، نتيجة سعي رعاتها إلى وقف التصعيد، أما على صعيد العلاقات مع إسرائيل في أعقاب الاتفاقيات بينها وبين بعض الحكومات العربية، فإن السعودية تدرس الاعتراف بالدولة اليهودية، بعد 75 عامًا من إنشائها، كما أن النفوذ العالمي للمنطقة آخذ في الارتفاع، فهناك أربع دول على وشك الانضمام إلى نادي البريكس الذي يضم قوى عدم الانحياز التي تريد عالماً أقل هيمنة للغرب.
إن هذه التحولات تبدأ فصلاً جديداً في الشرق الأوسط يتميز بفرص جديدة ومخاطر جديدة، فزعماء المنطقة يتوجهون نحو أفكار انتشرت في العديد من أنحاء العالم، بما في ذلك تبني البراغماتية الاستبدادية كبديل للديمقراطية، والدبلوماسية المتعددة الأقطاب بدلاً من النظام الذي قادته الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد العام 1945.
ويُعد الشرق الأوسط بيئة محتملة لظهور التهديدات التي قد تواجه العالم في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن الحالي، بما في ذلك الانتشار النووي، وتغيرات المناخ، والمزيد من عدم المساواة، مع تزايد تخلف الدول الضعيفة عن الركب.
وإذا كان العديد من شاغلي البيت الأبيض قد تركوا مناصبهم متمنين أن ينسوا كل شيء عن الشرق الأوسط، إلا أن الأمر بات مهماً من أي وقت مضى، فعلى الرغم من أن عدد سكان المنطقة لا يتجاوز 6% من سكان العالم، إلا أنها تسيطر على الاقتصاد العالمي، وباعتبارها منتج النفط الأقل تكلفة، تبلغ حصتها من صادرات النفط الخام 46٪ وتلك الحصة في ازدياد، كما تبلغ حصتها من صادرات الغاز الطبيعي المسال، والتي تشهد طلباً كبيراً منذ إغلاق خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا، 30% وهي في ازدياد أيضاً، وبفضل موقعها، يمر عبر المنطقة 30% من إجمالي تجارة الحاويات و16% من الشحن الجوي، وتعد صناديق ثروتها السيادية من بين أكبر الصناديق في العالم، بأصول تبلغ قيمتها ثلاثة تريليونات دولار، أما حروبها وفوضاها فتمتد عبر الحدود؛ ويؤثر لاجئوها على السياسة في أماكن بعيدة مثل أوروبا.
لقد كان العقدان الماضيان بائسين في الشرق الأوسط، وانتهت المشاريع الديمقراطية بالفشل وإراقة الدماء، سواء في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، أو في بلدان الربيع العربي بدءاً عام 2011، حيث سعى تنظيم الدولة الإسلامية إلى شق طريقه نحو تأسيس الخلافة، بينما سعى بشار الأسد في سوريا إلى القتل وإغراق شعبه بالكلور وغاز الأعصاب.
ولكن مع انحسار القتال الآن، ظهرت ثلاثة تغييرات كبير:
أولاً- يتعين على المنطقة أن تتحمل المزيد من المسؤولية عن أمنها، بعد أن تبخرت شهية أمريكا للتدخل عسكرياً، ومن جهة أخرى، أصبحت أنماط التجارة متعددة الأقطاب، حيث يعتقد صندوق النقد الدولي أن 26% من صادرات السلع في الشرق الأوسط تذهب إلى الصين والهند، وهو ما يقارب ضعفي المستوى في عام 2000 وضعفي الحصة الموجهة إلى أمريكا وأوروبا، وقد أدت إعادة التنظيم السياسي في الآونة الأخيرة إلى الرغبة في تهدئة الصراعات.
ثانياً- يخلق التحول في مجال الطاقة حاجة ملحة للخروج من النمط المألوف المتمثل في الطفرة النفطية والكساد، وبدلاً من ذلك يوجد حافز قوي لدى دول الخليج من أجل رفع إنتاج الوقود الأحفوري في العقد المقبل قبل أن يتضاءل الطلب بشكل دائم، ومن أجل إنفاق العائدات على تنويع الاقتصادات المحلية.
ثالثاً- أصاب التعب الرأي العام؛ فالتجارب السياسية، سواء كانت تحت عنوان الديمقراطية أو الإسلاموية، كانت تجارب مشوهة، وبات الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط يتوقون إلى الفرص الاقتصادية.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الدولة التي تحظى بالإعجاب الأكبر بين الشباب العرب هي دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تتمتع باستقرارها واقتصادها المزدهر في ظل حكم الأسرة الحاكمة بقبضة حديدية، وفي الوقت ذاته، فإن التدخل الغربي الأقل في الأمن والتجارة يعني أيضًا ضغطًا أقل على حقوق الإنسان أو الديمقراطية.
ولكن بعض التغييرات في المنطقة تدعو إلى السخرية، لنأخذ مثلًا مشروعاً تافهاً مثل نيوم، وهي مدينة جديدة مبهرجة يتم بناؤها بتكلفة تقدر بنحو 500 مليار دولار من قبل محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية.
إضافة إلى ذلك هناك تغييرات أخرى دائمة وعميقة؛ حيث تزداد أعداد النساء العاملات في الخليج، ويتدفق السياح الإسرائيليون على دبي، وفي جميع أنحاء المنطقة، ينمو الاقتصاد غير النفطي بمعدل سنوي جيد يبلغ 4%، كما أن الاستثمارات المتعددة الجنسيات عبر الحدود آخذة في الارتفاع، ومن الممكن أن نتصور كيف قد تؤدي دورة حميدة من الاستقرار والسلام إلى المزيد من الاستثمار والتجارة التي تعمل على رفع مستويات المعيشة وتوسيع نطاق الرخاء، وعكس اتجاه دوامة طويلة الأمد من الفشل في جزء من العالم يسكنه نحو 500 مليون نسمة.
ولكن، من أجل تحقيق ذلك، سيتعين على الشرق الأوسط التغلب على بعض المشاكل الكبيرة؛ إذ يزعم المستبدون “الأكثر استنارة” في المنطقة أنهم يواجهون نوعاً من “المساءلة عن الأداء” لتحسين أحوال شعوبهم، ويشكل انتشار الأسلحة النووية مصدر قلق بالغ بعد أن أصبحت إيران على عتبة أن تصبح دولة مسلحة نووياً.
كما أن تغير المناخ سيجعل أحد أكثر الأماكن حرارة وجفافًا في العالم يواجه طقسًا أكثر حدةً، أضف إلى ذلك أن بعض البلدان فقط قادرة على تحمل تكاليف الاستثمارات، مثل المدن المعاد تصميمها ومشاريع تحلية المياه، التي تحتاجها لتظل صالحة للسكن.
والأمر الأكثر وضوحاً هو أن الشرق الأوسط الجديد أصبح أكثر اختلالاً مما كان عليه في الذاكرة الحديثة، فدول الخليج وإسرائيل تضم 14% فقط من السكان ولكنها تمتلك 60% من الناتج المحلي الإجمالي، و73% من صادرات السلع و75% من الاستثمارات الداخلية المتعددة الجنسيات.
إلا أن الاقتصادات الحديثة في إسرائيل والمملكة العربية السعودية تقع على حدود أماكن محاصرة باليأس في الضفة الغربية واليمن، بينما يغرق لبنان في أزمة مالية، ومن الممكن أن تتجه مصر إلى نفس الاتجاه.
إن الفائزين الجدد في الشرق الأوسط يجسدون عقلية الصفقات التي قد تجعلهم أكثر ثراءً، أما الخاسرون فهم بمثابة تذكير بأنه في عالم يتسم بقدر أقل من القواعد والمبادئ، لن يأتي أحد للإنقاذ.