تحليلات

التحديات المحلية في عام 2023 وأثرها في المشهد السوري

مدخل

رغم فشل الجهود الدولية في إيجاد حلّ سياسي للوضع في سوريا، إلا أن مستويات العنف خلال العام 2023 كانت منخفضة نسبياً مقارنة بما كان عليه الوضع قبل سنوات، ولعل من أبرز مظاهر انخفاض مستويات العنف

  • انخفاض عدد ضحايا الاشتباكات والمعارك العسكرية نسبياً بالمقارنة مع سنوات سابقة.
  • ثبات خرائط النفوذ بين الأطراف المتنازعة حيث حافظ كل طرف على “جغرافيته”

ورغم انخفاض معدلات العنف نسبياً خلال عام 2023 -رغم ارتفاعها بشكل مضطرد في الربع الأخير من 2023-، وثبات خرائط النفوذ، ولكن هذا لا يعني أن الأزمة في سوريا قد اقتربت من خط النهاية، فلقد كان عام 2023 الأقسى على الإطلاق بالنسبة للسوريين بسبب سوء الأوضاع المعيشية والإنسانية التي عانى منها السوريون خلال هذا العام،

لقد شهد عام 2023 تدهور قيمة الليرة السورية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق وارتفع التضخم إلى مستويات قياسية وألقت الأزمة الاقتصادية العالمية والمتنامية في لبنان وتركيا بظلالها على المشهد في سوريا، وتزايدت معدلات البطالة بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلى تبعات الزلزال الذي ضرب في 6 شباط/فبراير 2023، جنوب ووسط تركيا وشمال وغرب سوريا، حيث قُتل ما لا يقل عن 8476 شخصًا وأصيب أكثر من 14500 آخرين في سوريا، وكانت له آثار سلبية على ما يقرب من 11 مليون شخص، بحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

هذا الوضع المحلي المتردي وضع سلطات مناطق السيطرة الأربع (المؤقتة، الإنقاذ، الذاتية، النظام) أمام تحديات داخلية غاية في الصعوبة، وأجبر كلاً منها على محاولة اجتراح حلول للأزمة التي تعيشها منطقة سيطرتها، وبطبيعة الحال فقد ارتدت آليات الحل التي انتهجها كل طرف من السلطات الأربعة على وضعه الداخلي ما أدى إلى مرور هذه السلطات/الكيانات بأزمات داخلية بلغت حدّ تهديد وجودها أحياناً.

تستعرض هذه الورقة التحديات الرئيسية التي واجهتها كل سلطة من سلطات النفوذ الأربع في مناطق سيطرتها خلال عام 2023، وأبرز السبل التي انتهجتها لمعالجة هذه التحديات أو الالتفاف عليها، وكيف انعكس ذلك على وضع كل سلطة والحالة السورية في عام 2024 وما بعده.

مناطق سيطرة النظام

فيما يخص منطقة سيطرة النظام في عام 2023 فقد عانت هذه المناطق من تدهور غير مسبوق في قطاع الخدمات والوضع المعيشي، حيث تسبب انهيار قيمة الليرة وتقليص الدعم الاجتماعي وارتفاع مستويات التضخم وتشديد العقوبات، إلى إضعاف القوة الشرائية بنسبة كبيرة وتوسع الهوة بين مستويات الدخل والحد الأدنى المعيشة،

ومن المفارقات المهمة في هذا السياق أن عام 2023 الذي شهد أعلى مستويات التواصل والانفتاح على النظام وزيارة مسؤولين إقليميين ودوليين كبار إلى النظام في دمشق -مثل بعض المسؤولين الأمميين، والعديد من المسؤولين والوزراء العرب بالإضافة إلى الرئيس الإيراني-، إلا أن هذا العام نفسه مثل ذروة التدهور في الأوضاع المحلية في سوريا عموماً ومناطق سيطرة النظام بشكل خاص، على الصعيد الاقتصادي والأمني.

ولمواجهة أزمة انهيار الاقتصاد السوري -التي بدأت إرهاصاتها الفعلية في الثلث الأخير من 2019، وبلغت ذروتها في نهاية 2023 وما زالت مستمرة-، عمد النظام إلى:

  • اتخاذ عدة إجراءات وقرارات -التي بدت متخبطة ومتضاربة- في الجانب الاقتصادي كان من ضمنها رفع الحد الأدنى للأجور ورفع أسعار المحروقات وبعض المواد الأخرى الاستهلاكية، وتقليص حجم الدعم الاجتماعي أو رفعه عن العديد من المواد الأساسية مثل الخبز والغاز المنزلي، في محاولة منه لتدارك تبعات الأزمة أو للظهور بمظهر المدرك لتبعات الأزمة والساعي لحلها، وإطلاق يد أسماء الأسد وفريقها لمتابعة رجال الأعمال والمتنفذين في سوريا وتغريمهم أو توظيفهم في دعم اقتصاد النظام.
  • التجاوب الدبلوماسي، مع محاولات الانفتاح والتواصل وحتى التطبيع من طرف العديد من الدول وفي مقدمتها الدول العربية التي أعادته إلى الجامعة العربية وفتح العديد منها قنوات تواصل رسمية وناقش ترتيبات أمنية واقتصادية مشتركة.
  • إحداث بعض التغييرات الهيكلية مثل الترفيعات والتنقلات في الأجهزة الأمنية والعسكرية، التي أقرها النظام في حزيران/يونيو 2023، وبالرغم من أنها تأتي في سياق روتيني بيروقراطي، ولكنها تكتسب أهمية معينة بسبب عدد المشمولين بها، والتنقلات في المناصب القيادية والحساسة التي تضمنتها ومواصفات الأشخاص الذين شملتهم هذه التنقلات، في إشارة إلى رغبة النظام في مكافأة شخوصه، وتحصين نفسه من أي تبعات محتملة لتفاقم الأوضاع المحلية.

احتجاجات متصاعدة في أوساط النظام

مع ذلك وبسبب الفشل الذريع في وقف تدهور الأوضاع المعيشية والإنسانية، واجه النظام حراكاً مضطرداً في مناطق سيطرته بلغ ذروته في حراك الدروز في محافظة السويداء، التي خرجت كلياً عن سيطرة النظام خلال عام 2023، ولا زال أهلها ينظمون مظاهرات ووقفات احتجاجية مستمرة تندد بسلطة النظام وممارساته وتدعو لتطبيق القرارات الدولية وفي مقدمتها 2254 (هيئة الحكم الانتقالي).

كما برزت في 2023 تحركات أخرى في مناطق النظام على مستوى بعض النخب من الطائفة العلوية وغيرهم من الذين بادروا للحديث علانية عن تردي الأوضاع وسوء الأحوال المعيشية وفساد الحكومة، في مقاطع مصورة ومنشورات على وسائل التواصل مطالبين بإصلاحات جذرية، أو برحيل النظام، بعد أن عبروا عن إحباطهم من السياسات الاقتصادية لبشار الأسد وحكومته، فضلاً عن نفوذ زوجته أسماء ومجلسها الاقتصادي، وهذه أحد التطورات البارزة في 2023 حيث توسع نفوذ أسماء الأسد وحجم مشاركتها في إدارة شؤون البلاد بشكل أكثر من ذي قبل بكثير.

ولم يقتصر الأمر على الاحتجاجات المتفرقة التي نددت بالنظام وطالبت بإيجاد حلول لما تعيشه البلاد، بل ظهرت حراكات ذات طابع منظم مثل المجموعة التي أسمت نفسها “حركة 10 آب”، ولكنها سرعان ما تم إيقافها أو تفكيكها.

من جهته، بدا النظام السوري مقيداً في إطلاق العنان لقواته وطرق عمله المعتادة، لإخماد احتجاجات العلويين أو الدروز في السويداء، على شاكلة ما فعل في مناطق أخرى خلال السنوات الـ13 الماضية، واقتصر تحركه في حالة العلويين على ملاحقة واعتقال النشطاء بصمت أو الاكتفاء بدفع “الشبيحة” لترهيب المحتجين والمنتقدين وتهديدهم بالاعتقال أو التصفية، خوفاً من توسع حركة التمرد في مناطق دعمته بإخلاص خلال الحرب، ويمكن القول إنه لا يوجد ما يؤشر -حتى الآن- إلى أن الاحتجاجات أو الاعتراضات في أوساط العلويين وغيرهم، بلغت من التنظيم والتوسع بحيث يمكن اعتبارها مهدداً حقيقياً لحكم الأسد.

وبالعودة لحراك السويداء فإن ما يجري فيها -رغم محدوديتها الجغرافية- يمكن وصفه بأنه موجة جديدة من الحراك المعارض لنظام الأسد، الذي يصر على احتكار قيادة الدولة ومواردها منذ عقود، رغم عدم قدرته على رفع الأجور أكثر من 2% من الحد الأدنى للمعيشة، ولذلك، لم تقتصر شعارات الحراك على الاحتجاجات ضد الأوضاع المعيشية فقط، بل تطورت لتشمل المطالبة بتحولات سياسية جذرية، ومنها رحيل النظام وتطبيق القرار 2254، خاصة الجزء المتعلق بهيئة الحكم الانتقالي.

وفي مقابل هذا الحراك المستمر والمتصاعد في السويداء فقد امتنعت قوات النظام العسكرية والأمنية -على غير العادة- عن الانخراط في مواجهة مباشرة مع المحتجين، فيما يؤشر إلى الرغبة باحتواء الأمور دون إثارة اشتباكات، على الأقل حتى الآن، خوفاً من تطور الأمور إلى دوامة من العنف غير المسبوق في السويداء.

وبقدر ما تعتبر استراتيجية النظام في عدم الخوض في مواجهة عسكرية وأمنية مباشرة مع المحتجين في السويداء أمراً إيجابياً، فإن هذه الاستراتيجية تأتي مصحوبة بانسحاب النظام وتخليه عن كافة مسؤولياته في المحافظة والامتناع عن تقديم الخدمات فيها، وهو ما يزيد من تعقيد الأوضاع المعيشية والأمنية في المحافظة.

بالرغم من ذلك، تستمر الاحتجاجات في السويداء بشكل أسبوعي ويومي أحياناً وتتبلور يوماً بعد يوم مطالب هذا الحراك وتوجهاته، الذي تمكن خلال الشهور القليلة الماضية من إقفال مقار حزب البعث في المحافظة، وشكل نقابات مدنية حرة، وتيارات وهيئات سياسية، وحافظ على زخمه رغم كل التحديات التي تواجهه.

تموضعات إيرانية مستمرة

وفي سياق متصل وعلى صعيد الجبهة الداخلية للنظام فقد شهد عام 2023 تعزيز الميليشيات الإيرانية تموضعها في الجنوب السوري على حساب الحضور الروسي في تلك المنطقة، فعلى وقع الحرب في غزة، عززت الميليشيات الإيرانية تموضعها على الخط الحدودي الجنوبي كما اعتقل النظام ضباطاً وشخصيات عسكرية مقربة من روسيا ليفسح المجال أمام تمركز القوات الإيرانية في الجنوب.

كما حققت العلاقات السورية الإيرانية قفزة جديدة عبر الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إلى سوريا في أواسط 2023، وناقش ووقع خلالها العديد من الاتفاقيات وأثار مسألة الديون السورية، بما يرسخ الدور الإيراني في المشهد السوري.

تبعات نهج النظام في إدارة الأزمة

وهكذا يمكن القول إن المعالجات التي انتهجها النظام حتى الآن للتعامل مع التحديات الداخلية التي يواجهها ارتدت عليه بشكل أساسي عبر:

  1. خروج بعض من مناطق نفوذه عن سيطرته (السويداء).
  2. تنامي حالة السخط والدعوة للتغيير في أوساط موصوفة بالموالاة للنظام (العلويون مثالاً).
  3. تراجع حالة التأييد أو التعويل على النظام -المنخفضة أصلاً- بدرجات غير مسبوقة، وتفاقم مستويات الإحباط في أوساط شرائح واسعة من السوريين المقيمين في مناطق سيطرته وهذا انعكس إلى:
  • مستويات هجرة غير مسبوقة في أوساط الشباب وأصحاب المهن والتخصصات كان نصيب “أربيل” في كردستان العراق الأكبر منها.
  • شيوع حالات الاستقالة والتغيب عن العمل بين موظفي القطاع العام.
  1. استمرار تدحرج كرة التدهور الاقتصادي في سوريا، مع تصاعد الضغوطات على النظام من أربعة جهات (حلفاء النظام، المطبعون مع النظام، العقوبات الغربية، المجتمع المحلي):
  • الجهة الأولى: حلفاء النظام وتحديداً الإيرانيون، الذين بدؤوا يطالبونه بسداد ديونه -المقدّرة بخمسين مليار دولار بحسب وثائق سُربت في وقت سابق لمحاضر من اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني-، لذلك جمدواالعمل بتسهيلات أو خدمات مالية ولوجستية مهمة كانوا يقدمونها للنظام طوال السنوات الماضية،

ضغوطات الحلفاء وتحديداً الجانب الإيراني بدأت فعلياً في عام 2022 عندما قررت إيران مضاعفة سعر النفط المورد إلى سوريا (إلى 70 دولارًا للبرميل) والمطالبة بالدفع المسبق بدلاً من الإقراض على الائتمان، ونتيجة لهذه السياسة انخفضت شحنات الوقود الإيراني إلى سوريا بنسبة 52%، وارتفعت في سوريا أسعار الوقود والمحروقات بشكل مضطرد، ثم بلغت هذه الضغوطات ذروتها بعد زيارة الرئيس الإيراني لسوريا في أيار/مايو 2023، ومباحثاته مع بشار الأسد حول الديون وتوقيع عدد من الاتفاقيات التي قيل أنها لم تكن مرضية للنظام بسبب تجاوزها حدود العلاقات الطبيعية إلى التعدي على بعض الملفات أو الجوانب السيادية، ليهوي بعدها سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار بنحو 65 بالمئة، فيما بدأ بند سداد الديون يشغل نسبة كبيرة من الميزانية السورية.

  • المصدر الثاني للضغوطات التي يواجهها النظام وتنعكس على الواقع المحلي هو الضغط القادم من الأصدقاء الجدد – القدامى، للنظام ، من الدول المطبعة التي قررت معاودة الانفتاح على النظام وتطبيع العلاقات الدبلوماسية معه، فبقدر ما كان من المفترض أن تنطوي عليه عملية التطبيع مع النظام من دعم ينقذ النظام أو يخفف على الأقل من أزمته، إلا أن عملية التطبيع جاءت مشفوعة بجملة من المطالب التي وضعت النظام أمام مسؤولياته تجاه ملف المخدرات والإرهاب واللاجئين والإصلاح السياسي وهو ما فشل النظام في تحقيق تقدم ملموس فيه في كثير من الأحيان (مثل تهريب الكبتاغون) وامتنع عن تحقيق شيء ملموس في أحيان أخرى (كما في مسار الإصلاح السياسي).
  • المصدر الثالث الذي يحاصر تحركات النظام ويضغط عليه هو الموقف الغربي والعقوبات التي تفرضها الدول الغربية بشكل مضطرد على النظام وخصوصاً منها قانون قيصر الذي قيد حركة النظام الاقتصادية بشكل كبير.
  • المصدر الرابع الذي يتصاعد تأثيره في الضغط على النظام من الداخل هو المجتمع المحلي الذي يحكمه النظام، والذي بدأ يضيق ذرعاً بمبررات النظام وفشله في إدارة مختلف ملفات الدولة، وتتصاعد مطالبه يومياً بتحسين الأوضاع المعيشية، كما تتراكم مطالب شريحة الموالين منه بضرورة حصولها على المكافأة التي تستحقها في مقابل إخلاصها ووفائها وتضحياتها إلى جانب النظام خلال السنوات الماضية.

مناطق سيطرة المعارضة

بالنسبة للمعارضة فقد استمرت في عام 2023 المواجهات الداخلية والاشتباكات بين الفصائل وكان من أبرزها محاولات التمدد من طرف هيئة تحرير الشام إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني، وهو ما جاء في شكل التحركات والمواجهة العسكرية تارة والاختراقات الأمنية والإدارية تارة أخرى، وتحركات وإجراءات فصائلية أو على مستوى الحكومة المؤقتة لتدارك التدهور في الوضع الإنساني والاقتصادي في مناطق سيطرتها.

محاولات هيئة تحرير الشام للهروب إلى الأمام

محاولات تمدد هيئة تحرير الشام إلى خارج مناطق سيطرتها نحو ما يعرف بمناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، بدأت فعلياً في 2022، وتضمنت -حتى الآن- أربع محاولات أساسية خاضت خلالها تحرير الشام مواجهات عسكرية واسعة نسبياً مع فصائل الجيش الوطني، وشكلت اختباراً لعلاقة مكونات الجيش الوطني بهيئة تحرير الشام من ناحية، وعلاقة مكونات الجيش الوطني بتركيا من ناحية أخرى، كما أثارت التساؤلات حول موقف الجانب التركي من هيئة تحرير الشام، وسقف طموح هيئة تحرير الشام وقائدها أبو محمد الجولاني الذي ما فتئ يسعى لابتلاع مناطق سيطرة المعارضة وفصائلها.

جدول هجمات هيئة تحرير الشام مناطق سيطرة الجيش الوطني والحكومة المؤقتة (غصن الزيتون ودرع الفرات)

التاريخ الدوافع والمسببات النتائج
يونيو 2022 لدى انشقاق مجموعة “أحرار عولان” عن “الجبهة الشامية”، وقعت صدامات بين الطرفين، فأرسلت “هيئة تحرير الشام”(هتش) قوات عسكرية إلى عفرين لدعم “أحرار عولان”. وأصدرت بياناً يتهم “الشامية” بمحاربة مجموعات أخرى والتحريض على الانقسام. وزعمت أن تدخلها يهدف إلى حماية جبهة المعارضة، ووقف الفوضى في شمال حلب. تمكنت “هتش” من السيطرة على عدة نقاط، خاصة في عفرين، قبل تدخل تركيا، وإقناع “هيئة تحرير الشام” بالانسحاب بعد التوصل إلى اتفاق وقع عليه الجيش الوطني و”هيئة تحرير الشام”
أكتوبر 2022 اغتيال الناشط الإعلامي محمد أبو غنوم في مدينة الباب، واتهام قيادة “فرقة الحمزة” التابعة للجيش الوطني بتنفيذ الاغتيال. ما دفع أطرافاً من “الجيش الوطني” إلى شن حملة واسعة في عفرين بقيادة “الجبهة الشامية” ضد “فرقة الحمزة” التي تلقت دعماً من فصائل حليفة، مثل أبو عمشة قائد “فرقة سليمان شاه”.اغتنمت “هيئة تحرير الشام” الفرصة، وتدخلت باستخدام قوة مسلحة ضخمة لدعم “فرقة الحمزة”، وتمكنت من السيطرة على مدينة عفرين. متهمة أصحاب المصالح في شمال حلب بالفساد وسوء الإدارة، ودعت إلى تغييرات جوهرية في إدارة المنطقة.

ثم تحركت باتجاه مدينة أعزاز مقر الحكومة السورية المؤقتة والقيادة السياسية والعسكرية، لكنَّ القوات التركية تدخلت، وفرضت اتفاقاً ينص على انسحاب “هيئة تحرير الشام” الفوري والكامل من كل المناطق في ريف حلب الشمالي.

أسفر تدخل “هيئة تحرير الشام” إلى تعزيز نفوذها والمجموعات التابعة أو المقربة منها في جرابلس والباب،وسيطر لواء “أحرار عولان” -الذي أصبح محسوباً على الهيئة- على معبر “الحمران الحدودي”[1] الذي كان تحت سيطرة “الجبهة الشامية”.

وعلى الرغم من انسحاب “هيئة تحرير الشام” بضغط من تركيا، ولكنها أبقت على مناطق حيوية مثل معبر الحمران الحدودي تحت سيطرتها ولم تسلمها إلى وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة.

يناير 2023 طالبت فرقة سلطان مراد “لواء أحرار عولان” بتسليم معبر الحمران إلى الحكومة السورية المؤقتة، بناء على الاتفاق الذي يقضي بانسحاب الهيئة من كافة المناطق وتسليم المقرات والمرافق التي سيطرت عليها في اشتباكات أكتوبر 2022، وهو ما قوبل برفض من طرف “أحرار عولان”، وتطور إلى مواجهات بين الطرفين، ما دفع “هيئة تحرير الشام” للتدخل للمرة الثالثة، حيث تمكنت من السيطرة على العديد من المقرات/النقاط التابعة لفرقة سلطان مراد في عفرين، تدخلت تركيا مرة أخرى لوقف الاشتباكات، وضغطت على “هيئة تحرير الشام” للانسحاب بينما بقي معبر الحمران الحدودي تحت سيطرة “أحرار عولان”.
سبتمبر 2023 حصل انقسام داخل فصيل “أحرار عولان”، حيث أعلن بعض قادة ومقاتلي الفصيل انتمائهم إلى “الفيلق الثاني” التابع لـ “الجيش الوطني السوري” في حين ظل آخرون ضمن الهيكل الأصلي التابع لـ “هيئة تحرير الشام”.وتنازعت المجموعة المنشقة على المعبر، بينما وفر “تجمع الشهباء” دعماً كاملاً لـ “أحرار عولان” الذي تحالف مع “هيئة تحرير الشام”. رحب الجيش الوطني السوري بدوره بالمنشقين للانضمام إلى صفوفه، حيث شاركت العديد من الفصائل التابعة للجيش الوطني في المواجهات ضد “أحرار عولان”. أغلقت تركيا المعابر الرئيسة الثلاثة مع سورية خلال الصراع، وبعثت مسؤولين لتسهيل المفاوضات بين الجانبين دون أي نجاح. في غضون ذلك وصل الدعم الذي وفرته “هيئة تحرير الشام” إلى “أحرار عولان” إلى حد إرسال تعزيزات من معقلها في إدلب، غير أن القوات التركية انتشرت في أعزاز لمنع تقدم هذه التعزيزات.

نتائج تمدد هيئة تحرير الشام خارج مناطق سيطرتها

أسفرت المواجهات والاشتباكات بين فصائل المعارضة في الشمال السوري إلى توسع نفوذ هيئة تحرير الشام داخل ما يعرف بمناطق “غصن الزيتون” و “درع الفرات”، كما أظهرت هذه المواجهات/الاشتباكات ضعف فصائل الجيش الوطني أو عجزها عن مواجهة هيئة تحرير الشام بدون التدخل التركي، في مقابل استعداد هيئة تحرير الشام لتجاوز كل الخطوط بما فيها التركية، ونزعتها للمواجهة والاشتباك العسكري وطموحها للسيطرة على مناطق المعارضة وابتلاع الفصائل الأخرى،

كما اضطرت هذه المواجهات مجموعات معينة من فصائل المعارضة للتمايز عن البقية وتحديد موقفها، وهذا أظهر استعدادها للتعاون مع هيئة تحرير الشام -عند اللزوم-، مثل الحمزات والسلطان مراد، بينما أظهرت فصائل أخرى ما هو أكثر من مجرد الاستعداد للتعاون وتعدت ذلك إلى نوع من العلاقة الوظيفية والتبعية لهيئة تحرير الشام مثل الفصائل التي انضوت تحت تجمع الشهباء والذي ينظر له على أنه ذراع هيئة تحرير الشام في مناطق سيطرة الجيش الوطني، على عكس مجموعات أخرى مثل معظم المجموعات المنضوية تحت الجبهة الشامية وجيش الإسلام (الفيلق الثالث)، التي أظهرت موقفاً صلباً ضد التعامل أو الارتباط بهيئة تحرير الشام.

بالمقابل فإن هجمات هيئة تحرير الشام وبروز نزعتها للتمدد خارج مناطق سيطرتها واستراتيجية تفكيك وابتلاع الفصائل في المناطق الأخرى، ساهم كل هذا في تحفيز فصائل الجيش الوطني والحاضنة الشعبية من خلفهم، ضد هيئة تحرير الشام، وأجج فيها الخطاب والتوجهات المعادية للهيئة، وسلط الضوء على دور تركيا في هذا كله فيما تعالت الأصوات المطالبة بإعادة النظر في موقف تركيا من الهيئة وقدرتها على ضبط تحركاتها.

انعكاسات توسع هيئة تحرير الشام على أوضاعها الداخلية

بالتوازي مع التحديات المحلية التي كانت تواجهها الهيئة وتوجهها نحو التوسع خارج مناطق سيطرتها إلى مناطق سيطرة المعارضة الأخرى، ظهرت أزمة أخرى -لا تقل خطراً عن التحديات المحلية الأخرى-، وتصاعدت في أوساط هيئة تحرير الشام وتطورت تدريجياً منذرة بتهديد التماسك الداخلي لـ “هتش”، فيما عُرف بـ “أزمة خلية العملاء”

بدأت إرهاصات هذه الأزمة في بداية عام 2023 داخل تحرير الشام، عندما تم توجيه الاتهام لعدد معين (حوالي الـ 20) من عناصر وقيادات هيئة تحرير الشام بالتخابر مع جهات خارجية معادية، وجاء الاتهام على إثر تسجيلات أو معلومات مسربة قدمها فصيل السلطان مراد -المعروف بعلاقته الوطيدة مع تركيا والذي كان يخوض علاقة متوترة واشتباكات متصاعدة مع أحرار عولان المحسوبين على هتش-،

وما لبثت أن توسعت عملية الاتهام لتشمل المئات من عناصر “هتش” وقيادات عسكرية وأمنية مهمة فيها، ولتضع هيئة تحرير الشام أمام تحد جديد على الصعيد الداخلي، وعلى صعيد علاقتها وقدرتها على ضبط الحاضنة الشعبية التي تفرض سلطتها عليها، وتحتاج إلى كسبها.

لا تزال تفاعلات “أزمة خلية العملاء” مستمرة ولا يتوقع لها أن تنتهي بسهولة ولكن يبدو من المعطيات الأولية التي تبلورت حتى الآن أن “الجولاني” مستمر في قيادة هيئة تحرير الشام والمناطق الواقعة تحت سيطرتها رغم الهزة القوية التي تعرض لها والاتهامات التي يواجهها، إلا أنه سيكون محتاجاً لتجاوز الكثير من السلبيات التي سادت طريقة إدارته للمنطقة خلال الفترة الماضية.

هذه الأزمة شكلت نقطة التقت فيها تراكمات طويلة من المظالم والمعاناة بسبب حملات النظام وحلفائه العسكرية والأزمة الاقتصادية والأوضاع المعيشية، والتجاوزات التي يقوم بها عناصر هتش الأمنيون والعسكريون،

وتعتبر أزمة خلية العملاء، من أكبر الهزات التي تتعرض لها سلطة هيئة تحرير الشام/حكومة الإنقاذ في مناطق سيطرتها ويمكن القول إن الأزمة بكاملها أو الشرارة التي أطلقتها وتطوراتها -على الأقل- جاءت نتيجة تبعات المعالجات التي قامت بها هيئة تحرير الشام والقرارات التي اتخذتها خلال الفترة التي سبقت الأزمة وأثنائها.

فراغ سياسي وإداري في مناطق المعارضة

في الوقت الذي كانت فيه هيئة تحرير الشام/حكومة الإنقاذ، تمارس نوعاً من الهروب للأمام من تحدياتها المحلية في مناطق سيطرتها (إدلب)، كان الجيش الوطني/الحكومة المؤقتة، تعيش تحديات محلية مشابهة إلى حد كبير لتلك التي تعيشها باقي مناطق السيطرة في سوريا ولكن الحلول التي حاولت اجتراحها أبسط وأقل فاعلية بكثير، وهذا انعكس إلى عدة تبعات:

  • تزايد حالات الانقسام والخلافات الداخلية في الوسط الفصائلي، وتراجع مستوى الالتفاف الشعبي، ما أضعف من علاقة هذه الفصائل بحاضنتها الشعبية، في الوقت الذي يتم تحميلها المسؤولية بنسبة كبيرة عن الأوضاع المتردية التي تعاني منها المنطقة، إلى جانب جهات وعوامل أخرى.
  • تعاظم حالة الاعتماد على المنظمات والهيئات الدولية الإغاثية في الوقت الذي يتناقص فيه حجم الدعم القادم من هذه الجهات بشكل كبير. (برنامج الأغذية العالمي خفض نشاطه بنسبة تزيد عن 40 بالمائة في يوليو/تموز 2023، مما أدى إلى انخفاض عدد المستفيدين من 5.5 مليون شخص إلى 3.2 مليون شخص).
  • تعاظم دور التشكيلات المحلية المنافسة أو الموازية للحكومة المؤقتة (المجالس المحلية) التي عمد بعضها إلى محاولة توفير مصادر تمويل وتقديم حلول ضمن مساحة عملها الجغرافية والاجتماعية المحدودة، (بعض المجالس المحلية بادرت إلى فرض رسوم على حركة المسافرين من تركيا إلى الشمال السوري لتوفير ميزانية للوفاء بالتزاماتها التي هي بمعظمها ذات طابع إنساني).
  • تزايد النشاط أو التوجه إلى إنتاج هيئات سياسية/اجتماعية محلية في الشمال السوري مدفوعاً بالشعور بحالة الفراغ السياسي في المنطقة والحاجة إلى إنتاج حلول أكثر فاعلية ومستدامة لتحديات المنطقة الاقتصادية والاجتماعية، وظروف الانفتاح والحريات الواسعة نسبياً مقارنة بمناطق السيطرة الأخرى. (خلال عام 2023 أعلنت العديد من الكيانات ذات الطابع السياسي عن تشكيلها أو التحضير لإعلان تشكيلها في الشمال السوري، كما نشطت رابطة للأحزاب والكيانات السياسية السورية ساهم في عضويتها وأنشطتها عشرات الهيئات والكيانات السياسية)

مناطق سيطرة قسد

في شرق وشمال شرق سوريا حيث تصنف المنطقة على أنها منطقة سيطرة قوات سوريا الديموقراطية/الإدارة الذاتية، شهد عام 2023 استمرار نشاط تنظيم داعش، واشتباكات ومواجهات واسعة بين قسد والمكون العربي في المنطقة ممثلاً في العشائر التي تشكو من تحكم قسد بالمشهد الأمني والسياسي والعسكري بشرقي سوريا، منذ معركة “الباغوز” سنة 2019،

عانت مناطق سيطرة قسد في شرق وشمال شرق سوريا، من ظروف اقتصادية وأمنية متدهورة على غرار تلك التي تعاني منها مناطق السيطرة الثلاث الأخرى، غير أن مناطق سيطرة قسد تعيش وضعاً أكثر تعقيداً بعدة أسباب:

  • الكيان المسيطر أو الحاكم في هذه المناطق -قوات سوريا الديمقراطية (قسد)- لا ينتمي بشكل أو بآخر إلى الأكثرية السكانية السائدة في المنطقة التي يحكمها، والعديد من كوادره وقياداته متهمة بالارتباط وحتى الانتماء أحياناً إلى جغرافيات أو مجتمعات أخرى أو إيديولوجيات غريبة عن السائد في المنطقة.
  • على عكس مناطق السيطرة الثلاث الأخرى التي تسود فيها قوة مسيطرة من لون واحد تقريباً، تنشط في مناطق شرق وشمال شرق سوريا الواقعة تحت سيطرة قسد، العديد من القوى والجهات الأخرى مثل الميليشيات المرتبطة بإيران، وروسيا، والولايات المتحدة، وتنظيم داعش، بالإضافة إلى جيوب للمعارضة السورية، والنشاط العسكري التركي المتواصل في هذه المنطقة، وهذا يفتح المجال باستمرار لتوتر الأوضاع وتصاعد المواجهات في هذه المنطقة أكثر من غيرها.
  • تتمتع منطقة سيطرة قسد بموارد نفطية وزراعية كبيرة نسبياً، وهو ما يرفع من طموح المواطنين الذين يعيشون تحت سيطرة قسد ويحملها المسؤولية أكثر من غيرها عن تحسين الوضع المعيشي في مناطق سيطرتها.

في كل الأحوال، فقد مرت مناطق سيطرة قسد خلال عام 2023 من تصاعد ملموس في الاشتباكات بين قسد والجانب التركي/المعارضة وهذا كان له أثره على طبيعة الحياة في هذه المناطق، كما شهدت هذه المناطق عدة أزمات مرتبطة بالوضع الاقتصادي والمعيشي للسكان من ضمنها أزمة وقود خانقة مرت بها هذه المناطق عدة مرات، وأزمة مياه، وغيرها من مظاهر تدهور الواقع المعيشي وتراجع مستويات الدخل.

المعالجات التي انتهجتها قسد

وفي محاولتها لتقديم معالجة فعالة للتحديات المحلية التي تواجهها -على غرار مناطق السيطرة الثلاث الأخرى أيضاً- فقد عمدت قسد/الإدارة الذاتية إلى عدة إجراءات:

  • التركيز على الجانب الأمني واتهام الأطراف المناوئة لسلطة الإدارة الذاتية بالتعامل مع جهات معادية مثل إيران أو داعش أو تركيا أو النظام، ونسب الإشكالات التي تعاني منها المنطقة إلى هذه الأطراف واتهامها بضعضعة الاستقرار وتأخير عجلة التطوير والتنمية.
  • رفع مستويات الأجور والرواتب بنسبة معينة وإن كانت هذه الزيادات لا ترقى لمستوى التضخم وارتفاع الأسعار ولكنها ساهمت فعلياً في تحسين الوضع المعيشي للسكان بنسبة معينة كون هذه الزيادات جاءت وفق تقديرات العملة الصعبة وليس العملة المحلية.
  • صياغة وثائق اجتماعية وسياسية تعيد من خلالها إنتاج سلطتها وتنظم علاقاتها بمحيطها والمكونات الأخرى التي تحكمها وهو ما يُنظر له على أنه محاولة هروب إلى الأمام من طرف قسد للقفز على الاستحقاقات والتحديات الحقيقية التي يعاني منها المجتمع الذي تحكمه إلى استحقاقات أشمل وكثير من تفاصيلها لا يمثل أولوية حقيقة في المرحلة الحالية.

اندلاع معركة العشائر

حيث عمدت قسد إلى التعامل مع العشائر عن طريق ممثلين عنهم وبادرت في 2016 إلى تشكيل مجلس دير الزور العسكري بقيادة “أحمد الخبيل” كممثل للعشائر في داخل قسد، وحرصت قيادة قسد على عقد لقاء دوري سنوي مع الوُجهاء والشيوخ من مختلف مناطق سيطرة قسد.

اندلعت شرارة المواجهة العنيفة في ريف دير الزور، بين قسد والعشائر -فروع من قبيلة العكيدات-، مودية بحياة العشرات، على إثر اعتقال قوات سوريا الديمقراطية في 27 آب/أغسطس لـ “أحمد خبيل”، وإعلان عزله متهمة إياه بالتورط بـ”جرائم جنائية والاتجار بالمخدرات وسوء إدارة الوضع الأمني”، وبالتواصل مع النظام السوري، وجاءت عملية الاعتقال بعد أشهر من التنافس و المناكفات بين قسد ومجلس دير الزور العسكري ورئيسه “أحمد الخبيل” الذي عمل خلال الفترة الماضية على توسيع دائرة نفوذه وتقديم نفسه كزعيم قبلي وقائد سياسي، وغيرها من الخطوات التي تصب في محاولة شغل مكانة ندية لقسد تؤهله للتعامل مع قوات التحالف بشكل مباشر.

لكن المواجهة التي كان عنوانها “الخبيل” و “مجلس دير الزور العسكري” سرعان ما توسعت وتغير عنوانها مع دخول شيوخ قبيلة العكيدات على خط المواجهة، وتراجعت المطالب المتعلقة بالخبيل ومناكفاته وحل بدلاً منها مطالب أوسع تضمنت المطالبة بتشكيل مجلس من أعيان العشائر يتمتع بعلاقة مباشرة مع قوات التحالف حيث برز “إبراهيم الهفل” -شيخ قبيلة العكيدات- و “حاجم البشير” – شيخ قبيلة البكارة-،

كما برز اسم “نواف البشير” من شيوخ البقارة، الذي يقود ميليشيا الباقر المرتبطة بإيران، حيث دفع ومجموعته باتجاه توجيه مشهد الاشتباكات لتمكين الجهات المرتبطة بالنظام وإيران ضد قسد.

مع ذلك وخلال وقت قصير نسبياً استطاعت “قسد” حسم المواجهة العسكرية لصالحها ولكن ملف العشائر والخلاف مع المكون العربي لم يتم حسمه.

عقد اجتماعي وقيادة سياسية جديدة

لاحقاً عمدت الإدارة الذاتية/قسد في 13 كانون الأول/ديسمبر 2023 إلى الإعلان عن ما أسمته “العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا”، كما تبع إصدار هذه الوثيقة(العقد الاجتماعي) وبالتزامن مع الإعلان عنها، عقد “مجلس سوريا الديمقراطية(مسد)” أعمال مؤتمره الرابع، في 21 كانون الأول/ديسمبر 2023، في مدينة الرقة شمالي سوريا، الذي اعتمد نظاماً داخلياً جديداً لـ “مسد” ووثيقة سياسية جديدة، وأقر مسودة “خارطة طريق حل الأزمة السورية”، وانتخب رئاسة مشتركة جديدة، من شخصية لها مكانة عشائرية مقيمة في الولايات المتحدة الأميركية “محمود المسلط”، إلى جانب شخصية كردية “ليلى قهرمان”،

الأبعاد الحقيقية للأزمة في مناطق قسد

ينظر إلى خطوة الإدارة الذاتية ومجلسها السياسي في الإعلان عن هذه الوثائق على أنها محاولة هروب إلى الأمام، عبر التعامل مع أزمة العلاقة مع المكونات في مناطق سيطرتها على أنها أزمة أنظمة ووثائق ناظمة، وخلطها مع قضايا شائكة أوسع مثل شكل الحكم في سوريا المستقبل وخطوات الحل السياسي.

لا تتعلق مسببات الاشتباك في منطقة شمال وشرق سوريا بالأسباب الاقتصادية والداخلية فحسب، ولكنها تتصل بشكل مباشر بصراع النفوذ الإقليمي والدولي في المنطقة، حيث تنشط كل من إيران وروسيا والنظام والمعارضة وتركيا والتحالف الدولي (الولايات المتحدة) في هذه المنطقة، وتحاول كل من هذه القوى باستمرار استثمار أي حدث في المنطقة لتعزيز نفوذها وإنفاذ أجنداتها.

وبينما اتخذت معظم هذه القوى موقفاً بارداً نسبياً من هبّة العشائر والاشتباكات مع قسد، إلا أن إيران حاولت الاستثمار في المشهد وتبعاته بشكل أوضح من غيرها، ومن أبرز تحركاتها في هذا السياق تشكيل ميليشيا محلية جديدة ذات طابع عشائري عربي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري شرق نهر الفرات، تحت مسمى “فوج العشائر الهاشمية”، على إثر اجتماع عُقد في  11 أيلول/سبتمبر 2023 في محافظة دير الزور، ضم كلاً من “نواف البشير” والقائد الإقليمي (قائد المنطقة) لـ “قوات الدفاع الوطني” التابعة لنظام الأسد، السوري “محمد الرجا”، و “عبد الصاحب الموسوي” من العراق، والحاج “عباس” من إيران.

خاتمة

يعتبر عام 2023 الأقسى على السوريين ولكن ليس بسبب مستويات العنف وإنما بسبب سوء الأوضاع المعيشية والإنسانية التي عانى منها السوريون خلال هذا العام،

هذا الوضع الاقتصادي المتردي في مختلف مناطق السيطرة والنفوذ الأربعة في سوريا (المؤقتة والإنقاذ والذاتية والنظام)، مثّل -ولا زال-، تحدٍّ خطيرٍ لسلطات الأمر الواقع والجهات الحليفة والداعمة لها، وهو ما دفع بهذا السلطات لمحاولة اجتراح الحلول لتمرير هذه الأزمة.

على صعيد النظام فقد حافظ النظام على نهج التبرير الذي اعتاده طوال السنوات الماضية عبر نسب الأزمة إلى عوامل خارجية (مثل ظروف الحرب، أو العقوبات الدولية التي جمدت أصوله وعرقلت حركة التجارة ومنعت الاستثمار الأجنبي، أو التدخلات الخارجية -كما يسميها النظام- التي تعمل على دعم الأطراف المناوئة له مما يمنعه أو يضعف من قدرته على إنجاز الحلول)، أو عوامل داخلية (مثل الفساد الذي يعتبر النظام بوجوده ولكنه يؤكد على محاربته، وسوء الإدارة التي يقر النظام بها أحياناً ويؤكد على تطويرها من خلال الإصلاحات الهيكلية ورفع الكفاءة).

وصاحب هذا الخطاب التبريري بجملة قرارات اقتصادية متضاربة ووعود بتحسين ظروف العيش، بينما ركز في استراتيجيته الاقتصادية على تحلل الدولة من مسؤولياتها المحلية عبر تقليص الدعم الاجتماعي وتراجع القيمة الشرائية للأجور، وتخصيص الجزء الأكبر من الميزانية لسداد الديون الخارجية التي بدأت تتحول إلى أداة إضافية لإخضاع النظام لتوجهات وأجندات حلفائه.

الإدارة الذاتية/قسد، حاولت القيام بخطوات ذات طابع عملي يمكن تلخيصها بثلاث محاور:

  • الأول تضمن التركيز على الجانب الأمني واتهام الأطراف المناوئة لسلطة الإدارة الذاتية بالتعامل مع جهات معادية مثل إيران أو داعش أو تركيا أو النظام
  • الثاني رفع مستويات الأجور والرواتب بنسبة معينة وإن كانت هذه الزيادات لا ترقى لمستوى التضخم وارتفاع الأسعار ولكنها تحسن ولو قليلاً من الوضع المعيشي للسكان.
  • الثالث صياغة وثائق اجتماعية وسياسية تعيد من خلالها إنتاج سلطتها وتنظم علاقاتها بمحيطها والمكونات الأخرى التي تحكمها وهو ما ينظر له على أنه محاولة هروب إلى الأمام.

وفي مناطق سيطرة المعارضة/ الحكومة المؤقتة، فقد عمدت السلطات القائمة في هذه المناطق إلى إعادة هيكلة بعض مفاصل الفصائل المنضوية تحت الجيش الوطني وبلورة الأجهزة الأمنية والشرطية في محاولة منها لتنظيم أوضاع المنطقة وبسط الأمن على اعتبار أن تحقيق الاستقرار الأمني سيؤدي إلى تحسن الوضع الاقتصادي من عدة وجوه أهمها تشجيع رؤوس الأموال على الاستثمار في المنطقة.

أما في جانب حكومة الإنقاذ، فقد حاولت هيئة تحرير الشام بدورها ممارسة نوع من الهروب للأمام عبر محاولتها التوسع إلى خارج مناطق سيطرتها والسيطرة على بعض المرافق الحيوية وفرض نفسها كأمر واقع على مساحة أوسع من سوريا، كما استمرت في جهودها لتنظيم واقعها وأطر الحوكمة في مناطق سيطرتها بالتوازي مع تحركات تعزيز سلطتها، والحد من تأثير مؤسسات الإفتاء والمحكمة الشرعية في الشمال على شرعيتها، مع استمرار سعيها لتحصيل الشرعية المحلية والدولية وهو ما سيفتح المجال أمامها لتجاوز العديد من العقبات التي تحد من قدرتها على التنمية.

بالرغم من الديناميكيات المتغيرة في مناطق النفوذ والسيطرة الأربع إلا أن الإجراءات التي تم العمل بها لمواجهة التحديات المحلية لعام 2023 -غير المسبوقة في مستوياتها وتعقيداتها-، نتج عنها تبعات خطيرة على المستوى الداخلي لهذه الكيانات وعلى مستوى المجتمعات التي تحكمها  (النظام – السويداء، قسد – العشائر، الإنقاذ – أزمة خلية العملاء، الإنقاذ – صراع وانشقاق الفصائل)، وهي تبعات لن تتوقف تفاعلاتها عند الحدود الزمنية لعام 2023، بل ستستمر لفترات طويلة قادمة، طالما افتقرت هذه الأطراف للقدرة على تقديم حلول ناجعة للتحديات المحلية أو الداخلية التي تواجهها،

وبالتالي فإن جميع مناطق السيطرة والنفوذ في سوريا مرشحة باستمرار لمزيد من المنافسة والصراعات الداخلية، رغم انخفاض حدة الصراعات البينية (نسبياً) بين مختلف هذه الأطراف،

وهذه سمة جديدة للوضع في سوريا حيث تصبح هذه التحديات الداخلية والمحلية التي تواجهها كل سلطة من سلطات السيطرة الرئيسية الأربع، سمة غالبة في المشهد السوري بعد أن كانت المواجهة العسكرية والاشتباكات البينية بين هذه السلطات/الحكومات هي الصبغة الرئيسية للمشهد السوري.

[1] معبر الحمران الحدودي يُشَكِّل بوابة اقتصادية حيوية تقع بين منقطة درع الفرات والمناطق الخاضعة لـ “قوات سورية الديمقراطية” (قسد). كما يحظى بأهمية إضافية تَتَمَثَّل في أنه أحد المعابر التي يمر من خلالها الوقود من الشرق إلى الغرب، كان بداية تحت سيطرة قسم من أحرار الشام ثم انتقل إلى سيطرة الجبهة الشامية بعد انضمام أحرار عولان إلى الشامية، لاحقاً ولدى انشقاق أحرار عولان عن الشامية بقي تحت سيطرة أحرار عولان الذين انتقلوا إلى هيئة تحرير الشام ثم أصبحوا جزءاً من تجمع الشهباء الموالي أو التابع لهيئة تحرير الشام.

مركز كاندل للدراسات

مراجع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى