قوات سوريا الديمقراطية وخيارات البحث عن المصير
تقرير تحليلي
مركز كاندل للدّراسات
مقدمة
تعتبر قوات سورية الديمقراطية “قسد” أحد أهم الفاعلين على الساحة السورية منذ نشأتها في عام 2015، فهي تسيطر على 25% تقريباً من الجغرافيا السورية “شمال شرق سورية ” وفي منطقة استراتيجية فيها أكثر من 60% من ثروات سورية الطبيعية بعد أن لعبت دوراً محورياً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تواجه قسد اليوم تحديات وجودية كبيرة على مستوى البنية الداخلية وعلى مستوى علاقاتها مع الولايات المتحدة حيث تتأرجح بين عدة خيارات استراتيجية للحفاظ على وجودها كمنظومة مستقلة في ظل التطورات المتسارعة في المنطقة وذلك بعد فشلها بأن تكون جزءاً من المعارضة السورية بعد أن تم استثناؤها من التمثيل في هيئة التفاوض، كما لم تنجح رغم كل جهودها بأن تكون جزءاً من النظام السوري، ولا يبدو أن الظروف الدولية والإقليمية مواتية لكي تستقل في مناطق شمال شرق سورية وهو ما يعني أن القلق على المصير والبحث عن الخيارات هو التحدي الذي لا يغيب عن أولوياتها.
في هذا التقرير سنتناول ظروف النشأة والتأسيس وتأثير هذه النشأة على الدور والتحالفات التي قامت بها قسد والتناقضات الحاصلة في بنيتها التنظيمية وأهم التحديات التي تواجهها والخيارات المتاحة أمامها لضمان مصيرها .
أولاً: ظروف النشأة والبنية التنظيمية
لا يمكن فهم البنية التأسيسية لـ “قسد” بدون العودة إلى منتصف عام 2011 لفهم الظروف المحايثة والجذور الأولى لتنظيم قسد والعصبة التي تشكلت منها قوات سورية الديمقراطية والتي لا تزال متحكمة بها حتى الآن، فعندما بدأت الثورة السورية كان المكون الكردي يشكل قلقاً بالنسبة للنظام فلم يكن لدى النظام أدنى شك بأن الكرد سينخرطون بالثورة بسبب الممارسات القمعية التي مارسها النظام ضدهم وهنا كان النظام أمام خطر توحد العرب مع الكرد في وجهه، فكان لابد من اللجوء للحل واستعادة العلاقة القديمة مع حزب الاتحاد الديمقراطي ” PYD ” عن طريق صالح مسلم قائد الحزب، لكي يشكل النظام منه قوات حماية شعبية ” شبيحة” لقمع أي حراك كردي ضد النظام ومنع الكرد من رفع شعارات الثورة السورية مثل ” إسقاط النظام ” مقابل أن يسلم النظام المنطقة إدارياً وأمنياً لحزب الاتحاد الديمقراطي وبذلك يحقق النظام هدفين إثارة القلق التركي من عودة نشاط الحزب كونه تابعاً لحزب العمل الكردستاني التركي ويحقق له قمع الكرد من قوة كردية لا تثير الأبعاد القومية . [1]
وهكذا بقيت العلاقة مع النظام حتى عام 2015 عندما بدأ التحالف الدولي حربه على تنظيم ” داعش ” فكانت قسد هي الشريك المحلي للتحالف الدولي بعد خلاف التحالف الدولي مع تركيا، وبذلك انتقلت من لعب الدور الوظيفي لصالح النظام إلى لعب دور وظيفي لصالح التحالف الدولي وتحولت إلى مشروع عسكري، تقود مجموعة من القوى العسكرية المختلفة، وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي “PYD”، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني “PKK” التركي كما أشرنا. [2] وكانت نتيجة دخول قسد” كشريك محلي” للحرب على الإرهاب أن سيطرت على مناطق شاسعة في شمال شرق سورية غنية بالثروات الطبيعية مثل النفط، والغاز، والقمح، والمياه. هذا الامتياز يعزز فكرة الانفصال ويمنح القوات نفوذًا اقتصاديًا كبيرًا، لكنه أيضًا يضعها في مواجهة تحديات كبيرة فيما يتعلق بأزمة الهوية. من جهة، وقبل تشكيل هذه القوات كان حزب الاتحاد الديمقراطي يعتبر المناطق التي يسيطر عليه في شمال شرق هي “روج آفا” كجزء من كردستان الكبرى، وبعد تأسيس قوات سورية الديمقراطية بدأت المحاولات لتقديم نفسها كجزء من الثورة السورية أو كمشروع سياسي جديد يحمل هوية “الأمة الديمقراطية”. أو جزء من النظام أحياناً.
لكن رغم ذلك تعاني قسد من أزمة داخلية وصراع ناعم بين توجهات التيار الراديكالي المتمسك بالتبعية لقيادة قنديل وهو تيار متعاون مع إيران معادٍ للولايات المتحدة [3] وبين تيار براغماتي له توجه نحو الولايات المتحدة ولا يمانع من فك الارتباط بقنديل والتفاهم مع المعارضة السورية وعلى رأسه مظلوم عبدي وإلهام أحمد ورياض درار لكنه تيار لايزال ضعيف النفوذ داخل التنظيم وهناك تيار أقرب إلى روسيا والنظام السوري. [4] وهذه البنية المعقدة داخل التنظيم تؤثر على توجهات التنظيم وحسم خيارته بسبب تعارض المصالح بين هذه التوجهات.
ثانياً: الخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام قسد:
لاتزال قسد تناور بين ثلاث خيارات تكتيكية وهي لا ترغب بتحقق أي منها لأن أي خيار سيعرضها لخطر الزوال كلياً أو جزئياً
الخيار الأول: البقاء على الوضع الراهن والاعتماد على الدعم الخارجي.
أحد الخيارات المطروحة أمام قوات سورية الديمقراطية هو الإبقاء على مشروعها الاستقلالي تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، الذي يتحكم بالمفاصل الأمنية والاقتصادية والعسكرية ورفض تقديم أية تنازلات للمعارضة السورية أو للنظام، والمراهنة على استمرار الدعم الأمريكي، واحتمال تنفيذ عمليات أمنية ضد الوجود التركي في الشمال بالتعاون مع مجموعات محلية في شمال غرب سورية رافضة لمسار التقارب التركي مع النظام.[5] وتكمن خطورة هذا السيناريو على الإدارة في أنه قد يتسبب باندلاع معارك جديدة، ورفع الحماية الروسية عن “وحدات حماية الشعب YPG” في مناطق تل رفعت وكوباني، مما يعني خسارة السيطرة على مناطق جديدة وتقدم تركيا فيهما، إضافة إلى إمكانية عقد تفاهمات مشتركة بين تركيا والنظام للتعامل المشترك مع ملف شمال شرق سورية على المدى المتوسط والبعيد.[6] هذا الخيار يمكن أن يعزز الاستقلال الذاتي لقسد لكنه يحمل معه تحديات كبيرة، أبرزها المواجهة المحتملة مع تركيا واستمرار الرفض من جانب المعارضة السورية للتقارب مع قسد وإمكانية الانسحاب الأمريكي من المنطقة على شكل الانسحاب من أفغانستان وترك قسد تواجه مصيرها.
الخيار الثاني: التفاهم مع النظام السوري.
الخيار الثالث الذي قد تلجأ إليه قوات سورية الديمقراطية هو تقديم تنازلات للنظام السوري والالتحاق به. هذا الخيار ليس جديدًا، حيث كان هناك تفاهمات قديمة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري منذ بداية الثورة في 2011، حيث تم تسليم مناطق تحت سيطرة الحزب للنظام مقابل منع انتشار المد الثوري إلى المناطق الكردية. ومع ذلك، فإن هذا الخيار قد يثير استياء القوى المحلية والإقليمية التي تدعم الاستقلال الذاتي.
ويبدو أن هذا الخيار محكوم عليه بالفشل خصوصاً أن قسد تشترط أن تحافظ على هيكلها العسكري ” قسد” وهيكلها الإداري ” الإدارة الذاتية ” مع التبعية للنظام والحفاظ [7]على مؤسسات حكمه وفروع أمنه وجيشه على أن تبقى في مناطق شمال شرق سوريا بدون المساس بها على أساس أن تتمتع قسد بالحكم الذاتي. [8]
أما النظام فيشترط أن يتم تفكيك الجهاز الإداري والعودة إلى نظام الإدارة المحلية الذي أقره النظام ودمج قوات سورية الديمقراطية في الجيش السوري كأفراد وليس كمنظومة مستقلة، ولا يبدو أن النظام جاهز لتقديم أي تنازل لقسد بهذا الشأن خصوصاً أنه بدأ بالشراكة مع إيران بتحريك القبائل الموالية له في شرق الفرات لكي تثور ضد قسد. [9] لكن قسد دائما ما تلجأ لخيار التقارب مع النظام عندما يحدث أي تصعيد تركي أو بوادر تقارب بين النظام وتركيا [10]
الخيار الثالث: التفاهم مع تركيا والمعارضة السورية بضغط أمريكي.
السيناريو الثاني يتمثل في فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني، وهو خيار قد يفتح الباب أمام تفاهمات مع تركيا والمعارضة السورية. هذا السيناريو يتطلب تقديم تنازلات كبيرة، لكنه قد يكون وسيلة للقوات لتفادي التصعيد مع تركيا وكسب شرعية إقليمية ودولية جديدة.
لكن يبدو أن اتباع هذا الخيار عسير للغاية، وذلك بسبب صعوبة العزل التنظيمي والبنيوي بين حزب العمال قسد وفكّ ارتباطهما الإيديولوجي، خصوصاً أنّ وحدات حماية الشعب والمرأة التابعيْنِ لحزب العمال يُشكّلان القوة الرئيسية في قسد منذ تأسيسها إضافةً لمسيرة حزب العمال على كافة مستويات الإدارة العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في مناطق سيطرتها. كما أنّ تركيا تشترط إنهاء سيطرة قسد على المنشآت النفطية في مناطقها وانسحاب قسد مسافة 30 كم عن حدودها قبل الاستجابة لأي خطوات عملية للوساطة الأمريكية؛ لأنّ هذه المنشآت تمثّل مورداً مالياً رئيسياً لحزب العمال يستخدمه في دعم عملياته ضد تركيا في سورية والعراق.
لكن في حال نجحت العملية العسكرية التركية في فصل منطقة شمال شرق سورية عن مناطق جبال قنديل التي يتحصن بها حزب العمال في شمال العراق وتعاونت الولايات المتحدة مع تركيا في تحديد أهداف أمنية تطال القيادات القنديلية التي تسيطر على قسد فإن من شأن ذلك إضعاف نفوذ حزب العمال داخل قسد والدفع بقسد لإبرام صفقة مع تركيا والمعارضة السورية والاتفاق على تمثيل مشترك للمجلس الوطني الكردي وقسد ضمن مؤسسات المعارضة السورية.
الخاتمة
تواجه قوات (قسد) أزمة هوية حادة تتمثل في التناقضات الداخلية بين مكوناتها المختلفة عرقيًا وأيديولوجيًا وسياسيًا، فضلاً عن تعرضها لضغوط متزايدة من قِبَل أطراف دولية وإقليمية مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، التي تسعى إلى دفع “قسد” لحسم خياراتها بما يتماشى مع مصالح هذه الدول المتضاربة. وهو ما يثير تساؤلات جدية حول قدرة “قسد” على تقديم مشروع قومي كردي في منطقة ذات غالبية سكانية عربية، خاصة في ظل هيمنة حزب العمال الكردستاني (PKK) على القرار الأمني والاقتصادي والعسكري، رغم التمثيل الشكلي لباقي المكونات ضمن “قسد”.
من جهة أخرى، واجهت “قسد” رفضًا من المعارضة السورية وفصائلها المسلحة، التي اشترطت لإنهاء حالة العداء معها فك ارتباط “قسد” بحزب العمال الكردستاني. هذا الشرط وضع “قسد” في موقف متأرجح بين خيار التقارب مع النظام السوري أحيانًا، والدعوة إلى الحوار مع المعارضة في أحيان أخرى، حيث حاولت المناورة في خطابها السياسي الحفاظ على مكتسباتها في المشهد السوري المضطرب. كما فشلت “قسد” في التوصل إلى اتفاق مع المجلس الوطني الكردي بعد رفضها لشروط المجلس، التي كانت تهدف إلى تأسيس مرجعية كردية موحدة تمثل الأكراد السوريين.
هذا الفشل الاستراتيجي يعمق أزمة “قسد”، حيث تجد نفسها مضطرة إلى اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبلها. ويبدو أن “قسد” تحاول كسب المزيد من الوقت عبر المناورة السياسية واللعب على الحبال بين القوى الدولية والإقليمية، بانتظار فرصة مواتية تتيح لها تعزيز موقعها واستمرارية مشروعها. أحد هذه الخيارات المحتملة هو استبدال المظلة الأمريكية-الروسية التي تحتمي بها حاليًا بمظلة إيرانية-إسرائيلية، نظرًا لتقاطع مصالح كل من إيران وإسرائيل في الحفاظ على “قسد” كأداة ضغط على تركيا وحماية مصالحهما في سورية
مع ذلك، يبقى مستقبل “قسد” محاطًا بالغموض والتحديات في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة. الخيارات المتاحة أمام “قسد”، سواء السعي إلى الاستقلال تحت هيمنة حزب العمال الكردستاني، أو الدخول في تفاهمات مع تركيا والمعارضة السورية، أو الالتحاق بالنظام السوري، كلها خيارات محفوفة بالمخاطر خصوصاً أن كل الأطراف الإقليمية والدولية تتعامل معها كأزمة للاستثمار بها وليس كشريك في العملية السياسية للحل في سورية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
[1] . المصدر مقابلة خاصة بين المركز واحد أعضاء المجلس الوطني الكردي
[2] . المركز العربي للأبحاث والدراسات : “قوات سوريا الديمقراطية”: النشأة والهوية والمشروع السياسي : تاريخ النشر 1/12/ 2016 .
[3] . موقع يكيتي ميديا: الصـراع الأمريكي – الإيراني داخـل الفـرع السـوري لمنظومة PKK تاريخ النشر 15/5/2021
[4] . موقع ليفانت : الصراع الأمريكي – الإيراني داخل الفرع السوري لمنظومة pkk تاريخ النشر 12/5/ 2021 .
[5] .
[6] . مركز عمران : مأزق الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية في ظل التقارب التركي مع الأسد تاريخ النشر 10/8/2024
[7] . الشرق الأوسط: مظلوم عبدي: لدينا 110 آلاف مقاتل… ونتمسك بهيكلية قواتنا في جيش سوريا المستقبل. تاريخ النشر ض17/12/ 2019
[9] . موقع الحرة: “قسد” ونظام الأسد.. جذور “علاقة ملتبسة” وتفاصيل مشاهد دموية . تاريخ النشر 12/8/2024.
[10] . موقع الأخبار: قسد: تستبق المصالحة: محاولات لاسترضاء دمشق تاريخ النشر 6/6/2024 .