الخيارات الاستراتيجية للثورة السورية أمام المتغيرات الدولية
عباس شريفة – مركز كاندل للدراسات
أمام المتغيرات الدولية والإقليمية المؤثرة على القضية السورية وما رافقها من جملة مؤشرات تؤكد وصول القضية إلى حالة العطالة في مسار الحل السياسي وتحول اهتمام الفاعل الدولي من التوجه لحل الأزمة إلى إدارة الأزمة ومن ضعف وغياب الفاعل المحلي لصالح بروز دور الفاعل الإقليمي والدولي وتحول الصراع من حرب ذات أطراف محلية إلى حروب معولمة يقوم بها أطراف محليون لصالح الفاعليين الدوليين والإقليميين وانتقلت القضية من محور اهتمام العالم إلى ورقة يتم توظيفها في ملفات أخرى مثل الملف النووي الإيراني والحرب الأوكرانية ومصالح الأمن الإسرائيلي، وهو ما دفع بالأطراف الإقليمية لتحقيق حلول جزئية بعيداً عن مظلة الحل والقرار الدولية وتحول ملفات مثل اللاجئين والإرهاب والحركات الانفصالية إلى ذرائع دافعة للأطراف الإقليمية لتخطو نحو التطبيع مع النظام مع ما نشهده من تفكيك أي حالة تمثيل حقيقية للمعارضة السورية .
أمام هذه المتغيرات يبرز سؤال الاستراتيجية التي يجب أن تسير عليها الثورة وما يجب على المعارضة أن تفعله حيال هذه التطورات لتجنب الخسارة الاستراتيجية والتي كان آخرها الانعطافة التركية تجاه التطبيع مع النظام.
وهناك لابد من حصر التحديات وبحث الخيارات التي يمكن أن تخرج بنا من حالة الاستعصاء الاستراتيجي وانتظار قرار الفاعلين قبل التحرك.
إن الثورة السورية لديها تحديات استراتيجية على المستوى المحلي والدولي والإقليمي
فعلى المستوى الإقليمي:
هي ثورة مرفوضة ومحاربة من محور التطبيع الذي يرى فيها موجة كاسحة من الحمى الديمقراطية المهددة للأنظمة يقودها ” الإسلام السياسي ” ومرفوضة من محور المقاومة المرتهن لمحور طائفي تقوده إيران وترى في هذه الثورة نوعاً من البعث العربي السني ضد المشروع الإيراني في المنطقة.
وعلى المستوى الدولي:
هي كذلك محل عداء مسبق من المحور الشرقي الذي يرى فيها ثورة ملونة ومفتعلة من الغرب لإسقاط الأنظمة الشرقية وفرز حكومات تابعة للغرب، وهي في نفس الوقت محل توجس وتخوف من المحور الغربي الذي يرى في التحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية في المنطقة العربية تعجيل بتوليد قطب سياسي سيكون له دور في منافسة الغرب على رسم السياسات الدولية.
وعلى المستوى المحلي:
تعيش الثورة حالة استقطاب حاد بين مكونات ترى في الخيار العلماني المتطرف خلاصها من وحش الحكم السني وبين العرب السنة الذين تعرضوا لأقسى عمليات الإبادة والتهجير من دون كل المكونات السورية الأخرى والمنقسمين على أنفسهم في الموقف من النظام ولا يتضح في الأفق ولادة تيار وطني متجاوز للحالة الطائفية والعصبات الأقوامية والإيديولوجيات الدينية التي يمكن لها أن تخط خطاً ثالثاً تتكون حوله كتلة حرجة بعيداً عن هذا الاستقطاب.
وعليه سيكون أي انحياز واضح من الثورة لأحد هذه المحاور عاملاً في إفقادها معناها وبدون انحياز لمراكز القوى الدولية والإقليمية المؤثرة سيبقي الثورة في حالة انكشاف واستباحة استراتيجية
بحكم حمولة التاريخ ولعنة الجغرافيا جاءت الثورة السورية في الزمن الصعب، وهو الزمن الوسيط بين تفكك نظام دولي آفل لم يعد يملك الإرادة في فرض الاستقرار وحل المشاكل الدولية، بل ويسعى إلى تفجير المزيد من بؤر التوتر في العالم ليترك ميراثاً من التحديات التي ستواجه النظام الدولي الذي لم يتخلق بعد ولم تتضح حدود قوته والثقة به كبديل أو شريك في إدارة العالم.
وهي ثورة ثارت في المكان الصعب من تلك البقعة القلقة من العالم والتي كانت في كل حقب التاريخ مسرحاً للصراعات الطائفية والحضارية والقومية وحدود احتكاك بين الحضارات القديمة والحديثة مع إرث ضخم من المرويات الدينية التي تقدس هذه الأرض وتنسج حولها قصص نهاية التاريخ في الديانات السماوية.
وهي ثورة تواجه العدو الصعب وهو وإن كان فيما يبدو في جزء جبل الجليد الظاهر نظام استبدادي قهري لكنه في العمق مركب من الإرهاب والميليشيات الطائفية والأنظمة القمعية والمشروع الصهيوني ومجموعة من حروب الوكالة بين المعسكر الغربي والشرقي إضافة للصراعات القومية الحالمة بالخلاص على حساب الشعب السوري.
لذلك كانت هذه الثورة بحاجة ماسة لاستراتيجية تعيد ترتيب معادلة الزمن على أساس الصبر الاستراتيجي ولا تخضع لعقدة الاستعجال في إنجاز الحل الجائر الذي يحقق مصالح الدول التي تسعى اليوم لاستعادة الاستقرار اليوم فقط لضمان مصالحها الخاصة على حساب الشعب السوري ومطاولة الأعداء حتى ترتفع عليهم كلفة الانتصار ويستعصي عليهم بناء الاستقرار الذي يتجاوز حقوق الشعب السوري.
وترتيب معادلة المكان بتوسيع رقعة المواجهة متجاوزة المواجهة المسلحة التي تصارع على الجغرافيا والتي باتت رهن ما تقدمه الدول التي تملك السلاح من دعم لضبط الصراع في دائرة استنزاف الجميع والخروج إلى المواجهة في الساحة الاقتصادية والإعلامية والثقافية وبناء الهوية والسردية وإدارة الموارد البشرية، والانسحاب من أتون حروب الوكالة والاستنزاف وترك الأعداء المتخاصمين في حالة استنزاف مع بعضهم البعض لحين تهيؤ الفرصة لخروج القوة السورية الوطنية لضبط المشهد بعد تحليل جثة النظام الميت.